منذ أيام كنت في زيارة لأحد المستشفيات الحكومية المتقدمة التي يستحق أن نفخر به، مثله مثل كثير من مستشفيات وطننا الحكومية، وكالعادة استوقفني أحد الزملاء الأطباء، وعندما يستوقفني طبيب في مستشفى حكومي فإن الأمر لا يخرج عن إحدى ثلاث: إما طبيب ممتعض من سلوكيات بعض زملائه ممن يتركون عملهم الرسمي ومرضاهم في المستشفى الحكومي لكسب غير نظامي ولا مشروع في الخاص، أو طبيب يعاتبني على تناولي لتلك الممارسات محتجا بأن تناولها إعلاميا يسيء لمهنة الطب، أو ثالث يريد أن يناقش شأنا اجتماعيا آخر ولديه حوله مقترحات وحلول.
هذه المرة الذي استوقفني زميل أعرف إخلاصه لوطنه ومهنته وأعرف أمانته وعقلانيته في طرحه، وكان من النوع الأول، لكن لديه نظرة أكثر شمولية وأمثلة أكثر تعددا لما يحدث في مجتمعنا الطبي ويتحدث بحرقة، فبدأ متسائلا باستغراب شديد قائلا: ما الذي يحدث؟! أطباء درسناهم ودربناهم وتخرجوا للتو ونعلم قدراتهم المحدودة وخبرتهم الضئيلة يخرجون في وسائل التواصل (تويتر وأخواتها) يفتون في أدوية وطرق علاجية وينصحون بمواد وأعشاب ويخوضون في مجالات ليست ضمن تخصصهم الذي اختاروه حديثا ويرد على ألسنتهم معلومات خاطئة ومضللة، والمتلقي المسكين يتابعهم ويتجاوب معهم!، متى يتم منعهم من قبل جمعيات الطب أو مؤسساته التي تعرف أحجامهم لوقف تضليلهم المضر بالصحة العامة؟!.
ثم كيف لطبيب قلب أن يفتي في سماح الأبناء لأبيهم أن يتزوج أو أن يقول إنني سمحت لعجوز عملت لها صماما بأن تتزوج! ما علاقة الطب وعمليات القلب بالشأن الاجتماعي والأمور الشخصية وهل هذه حكايات عجائز أم (حكاكة) طب تبحث عن شهرة؟! وما علاقة تخصص القلب الدقيق جراحة أو تطبيبا بالمواد الغذائية المسرطنة التي يحتاج إثبات تسببها في السرطان إلى باحث متخصص في مجال السرطان ومسبباته ولديه دراساته وأرقامه؟!
ثم عرج صاحبي على المفاخرة إعلاميا بإنجازات طبية هي في الواقع عمليات عادية روتينية نعملها في اليوم عدة مرات ولا تعد عملية نادرة أو معقدة، وهذا يجعل الإنجاز الحقيقي يضيع وسط الادعاءات الكاذبة والغثاء، ثم ضحك كثيرا وهو يقول: تخيل طبيبة متدربة تفاخر بتعيينها رئيسة أطباء متدربين (رئيسة رزدنس) وتدعي بأنه تتويج وتميز وأقصى الطموح وهذه المهمة كنا نرفضها لأنها شأن إداري عادي، لا يستحق المفاخرة والتهويل، بل هي مثل اختيار عريف للفصل في المرحلة المتوسطة.
ثم نظر إلي وقال: تعتقد أنك أعطيت موضوع عمل الأطباء الحكوميين في الخاص حقه من الطرح والتنبيه، و والله إنك لم تغط عشر الربع من ممارسات (الربع) تعال وانظر إلى العيادات الخالية إلا من طبيب متدرب (رزدنس) وانظر إلى المناوبات المدفوعة واسأل عن أصحابها ولماذا لم يحضروا؟ واسأل عمن حولوا عياداتهم إلى تخصصية حتى لا يحال لهم مريض واحد فيخرجون، ثم سألني: (هل تريد نكتة؟ أحد الزملاء أصيب بكدمة في ساقه، ربما لكثرت الركض بين المستشفيات الخاصة فأحضر إجازة مرضية وغاب عن عيادته فشوهد في اليوم التالي يعمل في عيادة مستشفى خاص، تاركا مرضاه في المستشفى الحكومي القادمين من خارج المدينة ينتظرون وليس له بديل، فصاح رئيس القسم لمديره قائلا "جيبوه وأنا أدفه بعربية".
ثم ختم بتساؤل قائلا (الشرهة على من ؟!) وأجاب نفسه قائلا: (الشرهة على مدير المستشفى الذي لا يحاسب موظفيه).
قلت له: مجلس الوزراء الموقر أصدر ضوابط حكيمة ومحكمة ودقيقة ومراقبة بمنصة إلكترونية، لم يصدر لها مثيل، ومضت مهلتها ومهمة سرعة تطبيقها نتحملها جميعاً.
التعليقات