تظهر خطورة تجاهل التفصيل في مناولة بعض الناس للعلم، لا سيما أهل الأهواء والفرق والأحزاب، فترى أحدهم يقبل كلَّ ما وافق هواه ومصلحته جملةً بغض النظر عن مستوى رجحانه، ويرفض ما خالفه جملةً، ولا يلتفت إلى أرجحيته..
التفصيل هو الوسيلة المثلى في المواضع التي تحتاج إليه، وهو من مظاهر التوسط والاعتدال؛ إذ لا يخلو تاركه من المجازفة بارتكابِ الأخذ المطلق، فيصلُ إلى الإفراط، أو الرفض المطلق، فينقلبُ إلى التفريط، فلا بدَّ للإنسان من الأخذ بالتفاصيل؛ لكي يصلَ إلى الصواب في الأمور النظرية الاجتهادية، ولكي يحصل على ما تتحقق به المصلحة في العلاقاتِ وتبادُل الحقوق، وهذا من مظاهر التحدِّيات التي أحيطت بهذه الحياة، ومن آثار كونها دارَ عملٍ واختبار؛ إذ لو كانت كلُّ المبادئ والمعارفِ على أعلى درجة الوضوحِ لم يُسفرِ التكليفُ بتعليمِها وتعلُّمها وتحرِّي الصوابِ فيها عن ظهور المجتهدين وتميُّزِهم على المُخلِدين إلى الراحة، ولو كانت جميع تصرفات الناس ومعاملة بعضهم لبعض على أحسن ما يمكن أن يصبوَ إليه كلٌّ منهم، لم يُعرف المحسنُ من المسيء، وفي ظهور كل منهما على حقيقته حكمة بالغة، فلا بدَّ للإنسان من النظر فيما يعتبره الشرع والعرف من إجمال وتفصيل، فإذا دلَّه دليل من أحدهما على الاكتفاء بالإجمال في موطن فلْيكتَفِ به، وإذا كان مما لا يتعاطى معه إلا بالتفصيل فليُفَصِّلْ، ولي مع تجاهل التفصيل اللازمِ وقفات:
الأولى: من الأخطاء في التفكير المعرفي أن يتجاهلَ الإنسانُ فيه التفصيلَ في مقامه المناسب له؛ ولهذا يصل الأمر بعتاة المبطلين إلى أعلى درجات النظر في الجملة، فيربطون بين استقامة السبيل المسلوك لإرضاءِ الله تعالى، وبين كل ما يتعلق بسالكيه كمظهرهم ومستواهم الاجتماعي والماديِّ، فيستدلون على عدم استقامةِ ما جاءت به الرسل بكون أتباعهم الذين اعتنقوه ضعفاءَ يعانون من رِقَّةِ الحال، كقول قوم نوح عليه السلام له: (مَا نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ)، فمن مبالغتهم في عدم التفصيل افترضوا أن السبيل إذا كان هو القويم، فلا يمكن أن يسلكه من به أيُّ نوع من الضعف ولو كان بحسبِ الظاهر والشكلِ، ولو نجحوا في التبصر لم يسلكوا هذا المنحى من الاحتجاج السقيمِ، بل يُفصلون ولا يخضعون المؤمن لمعيار ماديٍّ واجتماعيٍّ، وكذلك تظهر خطورة تجاهل التفصيل في مناولة بعض الناس للعلم، لا سيما أهل الأهواء والفرق والأحزاب، فترى أحدهم يقبل كلَّ ما وافق هواه ومصلحته جملةً بغض النظر عن مستوى رجحانه، ويرفض ما خالفه جملةً، ولا يلتفت إلى أرجحيته، وقد هدي أهل الحق والجماعة إلى الطريق الأمثل، حيث وفقوا إلى كون ميزان القبول والرد عندهم الدليل الراجح، على حسب ما تقرر عند العلماء من الأدلة والمرجحات.
الثاني: من وسائل النجاح في شؤون الحياة النظرة إلى جزئيات الهدف وتفاصيله، وتقدير ما يتحقق منه، والمدة التي يحتاجها لكي يتحقق، والمحافظة على كلِّ منجَزٍ، فإن تسنَّى أن يكتمل بكل تفاصيله، وتنضم بعض أجزائه إلى بعض فذاك، وإلا فلا يهدر ما أنجزه منه، وهو مستعين في ذلك بالتوكل على الله تعالى ثم بتجزئة المبذول من الوقت والجهد، كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ يُنَجِّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ» قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلاَ أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ، سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاغْدُوا وَرُوحُوا، وَشَيْءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ، وَالقَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا» أخرجه البخاري، فالحديث توجيه دقيق في عدم تجاهل التفصيل اللازمِ، فحاصله ألا يظنّ المرء أن عمله ينجيه جملة، بل يرجو رحمة ربه، ولا يتواكل فيعول على الرحمة من غير عمل، وإذا عمل لم يبذل كل الجهد، ولم يستغرق كل الوقت؛ إذ لا بقاء على ذلك ولا يمكن معه الاستمرار، ولو بذله كله لم يكن كافياً في بلوغ المقصد ما لم يقارنه تأييد من الله تعالى.
الثالثة: من أراد من الناس أن يكونَ منصفاً في إعطاء الآخرين حقوقهم من حسن العشرة ونحوها، ومُجمِلاً في أخذِ حقوقه منهم، فلا بد له من معيار التفصيل؛ ليعلم ما يلزمه بذله وما يُستحسنُ له أن يبذله، فلا يتوانى عن بذل الواجب عليه، ولا يقصر في إيتاء ما كان مستحسناً؛ إذ الزهد في محاسن الشيم ليس من دأب الكرام، لكن ليضع كل من اللازم والمستحسن في درجته المرسومة له شرعاً وعرفاً، هذا إذا كان هو الباذل المطلوب منه، فإن كان ملتمساً استيفاء حقوقه، فعليه أن يعرف مراتبها من اللزوم والاستحسان وشروط استحقاقها وموانعه، وما تقتضيه الظروف التي تحيط بمن يستوفيها منه، فيكون طلبه مفصلاً حسب الحقِّ والمنطق، لا على حسب ما يصبو إليه، فلا يؤثر في علاقات الناس أشدُّ من تجاهل تفاصيلها.
التعليقات