من أسوأ آثار السلاطة أن ينشغل المتطفلون بالخوض في الشأن العام؛ لما في ذلك من تعريض أهم المصالح والضروريات لأخطار جسيمة؛ إذ كلام مثل هذا لا يعدو أن يكون مجردَ فوضى مرفوضة شرعاً وعقلاً وعرفاً ونظاماً..
جوارح الإنسان مُسَمَّاها كاسمها، فهي تكتسب إما المنافعَ وإما المضارَّ، والإنسان معرَّض للجزاء على ما تكتسبه في العاجل والآجل، واللسان من أخطرها مكسباً وأنكاها أثراً، وله حصائد أليمة قد تبقى مدى الدنيا تتناقلها الأجيال، ويرويها الخلف عن السلف، بل إن كثيراً مما تجترحه سائر الجوارح من شأنه أن يعفوَ أثره ويصير نسياً منسياً إذا انصرم الجيل الذي عايشه، لكن تتعاوره الألسنة فتنقله وتشيعه، فيحيى ذكره، ويمتد أثره، وإذا كانت خطورة اللسان هكذا فلا يسوغ للعاقل أن يتركه سُدًى بلا خطام يَثنيه عن اقتحام المحظورات والمستهجنات في الشرع والنظام والقيم الاجتماعية، بل يلزمه أن يكون كلامه في حدود المسموح به، وإذا أمكنه أن يكون خالياً من الفضول والمشتبهات المطلَّة على المحظورات وإن لم تصلْ إليها فذلك أفضل له وأسلم لدينه وعرضه «فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ»، ولي مع سلاطة اللسان وقفات:
الأولى: أهمية تحكم المرء في لسانه ثابتة شرعاً وعرفاً، وفي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له وهو يذكر له العبادات: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِمَلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ»؟ قُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ قَالَ: «كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا»، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ» أخرجه الترمذي وقال: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ»، وروى الإمام مالك في الموطأ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ دَخَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَهُوَ يَجْبِذُ لِسَانَهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَهْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: «إِنَّ هَذَا أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ»، فإذا كان أبو بكر الصديق يخاف من تبعات لسانه، ولسانه من أطهر الألسنة وأكفِّها عما لا يليق، وأنطقها بالصدق والإيمان والخير، فما بال الذين يهيمون بألسنتهم في كل واد من أودية اللغو؟ وقد كان حكماء العرب يفصحون عن خطورة اللسان حتى شبَّهه بعضهم بالسبُع فقال:
لسانُ الفَتَى سَبْعٌ عَلَيْهِ شَذَاتُه .. وإلَّا يَزَعْ مِنْ غَرْبِهِ فَهْوَ قَاتِلُهْ
وَمَا الْجَهْلُ إلَّا مَنْطِقٌ مُتَسَرِّعٌ .. سَوَاءٌ عَلَيْهِ حَقُّ أمْرٍ وبَاطِلُهْ
الثانية: من الأثر السيئ لسلاطة اللسان أن الغالب على المبتلى بها أنه لا يتوقى التطاول اللفظيَّ على كل ذي حرمة، وربما بلغ به الأمر إلى أن يسيء الأدبَ مع المقدسات الشرعية، أو أن يتطاول على خواص الناس المأمور بتعظيمهم كالسلطان والوالدين والعلماء الربانيين، وما كان المرء لينزلق إلى هذه التجاوزات لو أنه تحكَّم في لسانه، وأدرك أنه ليس حرّاً في إطلاقه كما يشاء، بل هو مقيد بضوابطَ إذا تخطَّاها كان متجنياً؛ والواقع الذي يعيشه سليطُ اللسان انفلاتٌ مكتمل الأركان لا حدود له؛ ولهذا نرى بعضهم يُصْلِي نفسَه وأسرته بجمرات كلماته الملتهبة، فينادي أحدُهم ولده قائلا: يا ابن "كذا" ويذكر كلمة لا تليق، وكأنَّ إشباعَه شهيةَ البوْح بمثل هذه الألفاظ النابية أهمُّ عنده من حفظ كرامته الشخصية وحفظ خاطر أخص الناس به، ومعلوم أنه لو حافظ على نقاء طبيعته وسلامة فطرته لكان من أولويته أن لا يُسمى بما يستهجن من الأسامي، ويعد وصفه بها تعدياً مرفوضاً لو حصل من غيره، لكن الطبع المعوجُّ إذا استرسل معه الإنسان خدَّر أحاسيسه وهوَّن في نظره ما ليس بهين.
الثالثة: تصل خطورة انفلات اللسان ذروتها إذا تسلط على شؤون الناس وعلاقاتهم ومصالحهم، فصار يتدخل في أمور الآخرين، ويؤذي الناس بانحشاره في مساحاتهم الخاصة بكل تطفل، وأخطر ما في ذلك نقل النميمة بين الناس والسخرية منهم، ولا يقلل خطورةَ ذلك وحرمتَه أن يكون مغلفاً بالنكتة والتظاهُر بالظرافة، فالمكلف مأمور بأن يقول للناس حسناً، وقصارى النكتة المسموح بها أن تكون في دائرة القول الحسن خاليةً من الإضرار بجميع أصنافه، فإن تضمنت الإساءة فقد صادمت القاعدة الشرعية المتقررة في قوله تعالى: (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ)، كما أن المفضي إلى الضرر منها مردود بمخالفته الأصل الشرعي وهو أنه: "لا ضرر ولا ضرار"، ويتفاقم شرُّ اللسان المنفلت إذا لامس النقطة الحساسة في المصالح، وهي الشؤون العامة المتعلقة بتنظيم حياة الناس وسياسات الدولة ونحو ذلك مما وُكل إلى أئمة المسلمين وقادتهم، فمن أسوأ آثار السلاطة أن ينشغل المتطفلون بالخوض في الشأن العام؛ لما في ذلك من تعريض أهم المصالح والضروريات لأخطار جسيمة؛ إذ كلام مثل هذا لا يعدو أن يكون مجردَ فوضى مرفوضة شرعاً وعقلاً وعرفاً ونظاماً.
التعليقات