منافع لزوم الجماعة ظاهرة لا غبار عليها، يهدي إليها الشرع الحنيف، ويدركها العقل السليم، ولم تكن محل تردد عند من وفقه الله تعالى إلى رشده، والمتفرد عن الجماعة زاهد في أهم أسباب البركة والسعادة..

من عافية الله تعالى لعبده أن تتنور بصيرته؛ ليدرك بها نعم ربه عليه، فيقدرها حقَّ قدرها، ويسعى في شكرها بما استطاع، ويحرص على استبقائها واستصحاب أسبابها، كما أن من أعظم البلايا أن تعشى عين الإنسان عما ناله من النعم التي يغبطها عليها غيره، فلا يستشعرها فضلا عن أن يشكر من أنعم عليه بها، أو يسعى في حفظها، فيكون في غفلة من أمره حتى يفوته الأوان، ومن نعم الله على عباده نعمة الاجتماع والتآلف واتّساق الجماعة تحت راية وليّ الأمر، وقد أولتها الشريعة أهمية عظيمة، حتى إن مختصرات العقيدة عند المتقدمين لا تخلو من التأكيد عليها؛ لكونها من الفروق الفاصلة بين أهل السنة والجماعة وبين أهل الأهواء والمناهج الزائغة، ومع ذلك لا يخلو بعض الناس من تجاهل هذه النعمة والارتماء في مهالك التفرد تنكراً للمجتمع الذي نشأ فيه واحتضنه، واستخفافاً بأنفع أساليب السعادة في الدنيا والآخرة، وإيثاراً للأدنى على الأعلى، إما حباً للفساد أو اغتراراً بمفسد ماكر،

ولي مع بلايا الانفراد وقفات:

الأولى: التفرد عن جماعة المسلمين وإمامهم بالتملص من واجب السمع والطاعة لا يستغرب أن يكون بلية يلمس الإنسان أثرها السلبي ولو كان منطوياً على مفاهيم التفرد كاتماً له تقية وجبناً، ويتنوع أثر هذا البلاء ليشمل الظلمة في قلب المبتلى به والاختلال في شعوره وشؤون حياته والعلاقة بينه وبين ربه، ولو كان في الظاهر مجتهداً في العبادة، ولا غرابة في ذلك فهم غاشون لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، والدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، ومن انطلق من غش الأمة وتجارت به الأهواء، وكان ممن وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، فلا حظ له من السعادة ولا من حسن العلاقة بالله تعالى؛ إذ القلوب التي لا يصلها نور القرآن لا تنفك خاوية مظلمة، وبهرجتهم التي تنطلي على بعض المغفلين لا يطول بها الزمن حتى يتضح أنها مزيفة ولا طائل تحتها، وذلك بانحلال عقدهم وتشتت صفوفهم، وعدم إنجازهم للأمة ما تنتفع به في دينها ودنياها وحضارتها، وبالمقابل يبقى لأهل الجماعة - سلاطين وعلماء ومحسنين - ذكرٌ حسن وأثر إيجابي يمتد الانتفاع به عبر العصور المتعاقبة، ويعرف لكل واحد منهم ما بذله من جهد في الارتقاء بالأمة في المجال الذي يبدع فيه، وهكذا يضمحل الباطل ويزكو الحق.

الثانية: منافع لزوم الجماعة ظاهرة لا غبار عليها يهدي إليها الشرع الحنيف، ويدركها العقل السليم، ولم تكن محل تردد عند من وفقه الله تعالى إلى رشده، والمتفرد عن الجماعة زاهد في أهم أسباب البركة والسعادة، وهو الجماعة فعَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَدُ اللَّهِ مَعَ الجَمَاعَةِ» أخرجه الترمذي وحسنه، فالتخلص من هذه المعية العظيمة لا يحصل إلا من سيء التدبير غير مفلح في النظر لنفسه، والعجب أن نرى من هذا حاله يدعي أنه يسعى في مصالح الناس ومنافعهم، وقد عجز عن الاهتداء إلى ما فيه فلاحه الدائم، لكن أعجب من هذا أن يجد هذا المتخبط من يستجيب له، ومن يمنحه الثقة التي لا يليق بمثقال ذرة منها! ولوضعهم الثقة في غير محلها تنشطر صفوفهم، وتخيب آمال بعضهم من بعض، ولا تقوم لهم قائمة.

الثالثة: من فضل الجماعة وبركتها أن الملتزمين بها لا يتذبذبون ولا تنفلت العروة الوثقى من أيديهم، ويدركون أنهم يتصرفون كما أمرهم خالقهم الذي هو أعلم بما يصلحهم، وكلما ازداد أحدهم قرباً من الله تعالى وتمسكاً بالهدي النبوي وابتعاداً عن الهوى ازداد رسوخاً في لزومها، أما المتفردون الذين شذوا عن جماعة المسلمين وخالفوا ولي أمرهم فلا يضبطهم منهج، ولا تنضبط لهم مصلحة، بل حالهم كما ورد في حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ في أُمَّتِي أَقْوَامٌ تَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الأَهْوَاءُ، كَمَا يَتَجَارَى الْكَلَبُ بِصَاحِبِهِ، لاَ يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلاَ مَفْصِلٌ إِلاَّ دَخَلَهُ" أخرجه أبو داود؛ وعلاج هذا الكلَب لا يهتدي إليه أحد ممن ابتلي به إلا إذا عالج الهوى من جذور قلبه، ولم يعاند الحقائق الماثلة أمامه، وإلا فسيبقى على ما هو عليه، ولو كان له اشتغال بالعلم ورواية له؛ إذ العلم المنجي هو الذي غلَّبه حامله على هواه، وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله أنه قال: النَّاسُ ثَلَاثَةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّانِيُّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَؤوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ.