مات صديقي المقرب إبراهيم، فناجيت الله كثيراً، حين أصحو وتارة حين تأتي هواجسي لتأرق منامي، لا الدمع يكفكف آلام الرحيل، ولا الوجع يخفف لوعة الفقد، أناجي ربي فيمسح قلبي برفق، وأقف بصبر صامت أمام جلال الموت.
زارني إبراهيم في منامي في وقت كنت أصرخ فيه ألم الفراق، فقال لي بطريقته وصوته الأجش: «إن فات الفوت ما ينفع الصوت »، استدرت نحوه وسألته: «كيف حالك في الجنة يا إبراهيم؟ »، هز رأسه وتبسم ورحل سريعا، لم يكن هناك متسعا من الوقت لأسأله لماذا خلف وعوده بي ورحل على حين غفلة.
كثيرا كانت رحلات السفر، لكنها هذه المرة رحلة ذهاب دون تذكرة عودة، سبقنا إبراهيم منفردا وأخذ معه كتاب الأسرار والكثير من الذكريات، كانت هناك بعد ضحكات لم نضحكها، وسعادات في جيب الأيام لم نعشها، كان في العمرِ خبايا جميلة تنتظرنا لكن الموت حال بيننا.
عبثا نصارع، عجزت ليال طوال عن مسك قلمي لأرثيك على ورقة بيضاء، فهي المرة الأولى التي أصبح في حالة عصيان إلى أن خضعت وتمردت لأتخلص من هزائم الأحرف والكلمات، عبثا نقاتل ومن العبث أن نهاجر، وليس من حق الموت أن يواصل العبث بنا.
لقد أبكرت يا رجل الرجال، ولم أعلم بماذا أرثيك يا صاحبي، لكني رسمت دائرة مغلقة ووضعت كل الذكريات داخلها حتى لا تخرج منها أبدا، واستحضرت الشريط الذي يقف أمام عيني وتمر في لمح البصر كل المشاهد دفعةً واحدة، لا أدري هل تتسابق لتواسيني، أم أنها تخشى من أن تطولَ لحظاتِ الألم فتقتلني وتكشف لي طعون سببها فراقك دون جدوى من أن أخرج من ذلك الكابوس المحطم.
ثم يا له من وجع أن نهاجر كل شيء فجأة كالطير في رحلة البحث عن وطن آخر خالٍ من قساوة البرد القارس كبرد اللحظات التعيسة، ثم أتذكر فجأة كم عجت شوارع القاهرة والرياض بضجيج ضحكاتنا وسمعت الجدران أحلامنا الكبيرة كسفينة نوح، وشاركتنا الطرقات آمالنا، وعجبا! نلبس فجأة ثياب أخرى؛ إبراهيم ملفوف في الأبيض إلى ربه، ثم قلبي ملفوف في الأسود وحيدا بين زحام ضلوعي.
اشتقت إليك كثيرا يا صديقي وأعلم أنك لن تأتيني ولن ترد على رسائلي، لكنك ستسمع طقطقة الحطب في صدري، نار بلا لهب وقودها ذكرياتنا، وفتيلها يوم فارقتنا، ثم أتلقى العديد من الاتصالات من دول مختلفة لأتلقى فيك العزاء، من أناس لم أقابلهم في حياتي، أجمعوا أنك وهبت حياتك لغيرك، فرِحت لهم وأَعنت الكثيرين منهم ثم تملكت قلوبهم بحسن خلقك.
فراقك مرٌ يشعرني بالوحدة، وكأني في أرض غريبة، أتأمل فيها الماضي، اشتقت لأسمع منك الكلمات التي كنت تواسيني بها وتنصحني وتشجعني، يشهد الله أنني لم أُرافق أحداً من قبلك له مثل ما فيك، فأنت «عزيزٌ.. محدٍ يساويك» كريم الأصل وفيك من أسمى الخصال فضائلها.
تشبه الأيام الماضية يا صديقي العاصفة الهوجاء برياح عويلة تجتاحنا ثم تقتلعنا من جذورنا لتفتت أوراق سنوات تقاسمناها، وتبقى هناك الكثير من الأشياء -لا يعلمها إلا الله- دُفنت صفحاتها في قبرك، ثم تدخلني في اختبار الصبر الطويل لأبصر في قعر نفسي بحثا عنك، ويبقى في ضوء كل شمس غاربة سؤال يلوح في ذهني: نحن كبشر أين نذهب حين تغرب شمس آمالنا وأحلامنا؟
مات صديقي من بين كل الملايين وتركني أصارع وحيدا.. لقد كان رجل المهمات الصعبة، وكان يسعى دوما إلى فعل الخير.. رحم الله أخي الذي لم تلده أمي إبراهيم الرصيص رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، سلام إلى روحك الطاهرة يا قطعة فارقت جسدي وإلى اللقاء قريبا.
التعليقات