يرى المحلل الأميركي نيكولاس جفوسديف، أن إعداد خبراء استراتيجيين أفضل وأكثر إبداعا، قادرين على تقديم التوجيه والمشورة لخوض البيئة الاستراتيجية المعقدة اليوم، يتطلب في المقابل قيام صناع السياسة بمهامهم على أفضل وجه.

وقال جفوسديف، وهو أستاذ بكلية الحرب البحرية الأمريكية ورئيس تحرير مجلة اوربيس الفصلية للشؤون العالمية، التي يصدرها معهد ابحاث السياسة الخارجية الأمريكي، في تقرير نشرته مجلة ناشونال انترست الأميركية، إن التقارير الأخيرة عن عدم قدرة واشنطن على ترجمة مقترحات طموحة واسعة النطاق، بشان اندماج وتنمية امريكا اللاتينية إلى مكاسب سياسية ملموسة، أدت إلى تفاقم شعوره بالإحباط.

ويعترف ريكاردو زونيجا، الذي يخدم في إدارة الرئيس جو بايدن كنائب مساعد رئيسي لوزير الخارجية لشؤون نصف الكرة الغربي ، بأن الجهد الأمريكي يعتمد على نهج مجمع لأن المقترحات الاستراتيجية المختلفة للصورة الكبيرة لا يمكن ترجمتها إلى عمل.

وصرح زونيجا لصحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية قائلا" واقعنا السياسي الآن هو أنه ليس هناك دعم لتوسيع نطاق اتفاقيات التجارة الحرة (وهو ما يتطلب تشريعا من الكونجرس) وبدلا من ذلك اعتمد على "الاستفادة من التسهيلات التجارية و الفرص القريبة". وهذا هو نفس التحدي الذي تواجهه وزيرة التجارة جينا رايموندو، فيما تحاول توسيع نطاق الإجراءات التنفيذية، لاقتناص بعض الفوائد الاستراتيجية (فيما يتعلق بالتجارة والتعاون التكنولوجي) بين شركاء الولايات المتحدة في حوض المحيطين الهندي والهادئ -من خلال الإطار الاقتصادي الهندي- الهادئ الذي يعد بديلا ضعيفا للهدف الطموح المتمثل في إقامة مجتمع تجاري يربط دول حافة المحيط الهادئ بالولايات المتحدة. وربما استنتج رائد أعمال مغامر في نهاية عام 2015 أن قرار الرئيس الأميركي آنذاك باراك أوباما، باستخدام سلطته التنفيذية لإلزام الولايات المتحدة باتفاق باريس الإطاري، والتوصل إلى اتفاق نووي مع إيران، ربما يخلق فرصا، حيث أن التزام الولايات المتحدة بخفض الانبعاثات (والمشاركة في الموجة الأولي من العقوبات الاقتصادية ضد روسيا لضمها شبه جزيرة القرم) ربما دعم التطوير السريع لاحتياطيات أيران غير المستغلة من الغاز الطبيعي (للمساعدة في تعويض اعتماد أوروبا على روسيا واستخدام الغاز الطبيعي كوقود صوب الانتقال للطاقة الخضراء على المدى الطويل). وأوضح جفوسديف، أنه بحلول عام 2017، ألغى الرئيس آنذاك دونالد ترامب، هذه الإجراءات التنفيذية.

والسؤال هو، إلى أي مدى تثق دول الإطار الاقتصادي الهندي -الهادئ في أن تلك التغيرات التنظيمية المعلنة سوف تستمر في الإدارة المقبلة- أو أن الرئيس بايدن نفسه ربما يلغي هذه القرارات إذا عانت المصالح الداخلية من خسائر نتيجة هذه الجهود؟

وشهدت كل من ألمانيا وكوريا الجنوبية، كيف أن الإدارة الأميركية محاصرة بين فكرة زيادة التجارة والتعاون التكنولوجي مع دول المجتمع الديمقراطي، وبين الدفع بمقترحات تبدو على نحو يثير الشكوك مثل نهج " أمريكا أولا".

وليست كاثرين تاي الممثلة التجارية الأمريكية مخطئة عندما تقول " هناك بالفعل الكثير من الدول حول العالم، ترغب حقيقة في الإرتباط اقتصاديا معنا".

ولكن جهودها للترويج لـ"أمريكا كشريك موثوق به وإيجابي" تصطدم بهذه المخاوف. وجدير بالذكر أن النهج الأمريكي تجاه الضمانات الأمنية الأوكرانية -بعدم الاعتماد حتى على اتفاقية تنفيذية- يظهر المخاطر عندما لا يتم ترسيخ التزامات ومناهج عمل معينة بتحويلها إلى قانون وممارسة أمريكية.

ويعني هذا أن الولايات المتحدة كانت تميل خلال العقد الماضي إلى الرد على ما تفعله الصين، بدلا من وضع جدول أعمال استباقي. ونظرا لأن جهود الصين ربما تفشل، فإنه ليس من الحكمة من وجهة النظرة الاستراتيجية وضع السياسة الأمريكية، على أساس توقعات الفشل الصيني، وكما رأينا مع روسيا في أوكرانيا، فاقت قدرة موسكو على إطالة أمد غزوها بكثير توقعات الانهيار الروسي.

وللمضي قدما إلى الأمام هناك توصيتان فوريتان لصناع السياسة ، الأولى هى العودة للعملية التشريعية المتمثلة في أن يقوم الكونجرس والفرع التنفيذي بصياغة القوانين الجديدة، وتعزيز اللوائح، وتحديد السلطات والالتزام بالتمويل .

والتوصية الثانية، هي وضع أوليات في سياستنا الخارجية. والالتزام بها، ويعني بناء تحالف مستمر ودائم لتطوير طوق أمني عبر الحوضين الهندي الهادئ والاورو –اطلسي ولكن أيضا لتشجيع الشراكة في قطاعات التكنولوجيا والطاقة والمناخ والصحة الضرورية، لتأمين السلام والازدهار للولايات المتحدة ولحلفائها، أنه يتعين على واشنطن أن تكون قادرة على قبول ماهي العناصر المتضمنة في قائمتها الخاصة بالتفضيلات، التي تبدي استعداد لتنحيها جانبا.

فعلى سبيل المثال، سوف تتطلب مقترحات إدارة بايدن الخاصة بتمويلات جديدة لتطوير بنية تحتية، للتصدى لمبادرة الصين الخاصة بالحزام والطريق، التزامات من الحلفاء الخليجيين للولايات المتحدة با ستخدام صناديقهم الخاصة بالثروة السيادية، كما سوف تتطلب هذه المقترحات أن تساعد الهند في إعادة توجيه سلاسل الإمدادات بعيدا عن الصين . غير أن الإمارات ونيودلهي، ليستا ملتزمتين تماما بالانضمام إلى الإجراءات الغربية لزيادة الضغط الاقتصادي على موسكو، بسبب أعمالها في أوكرانيا . وهناك حاجة لنهج دقيق لإحداث توازن بين عدم إذعانهما لمثل هذه الإجراءات، وبين الحقيقة التي مفادها أن أي تحالف يكون عوضا عن الصين يقتضي مشاركتهما النشطة. ومثلما حدث في الفترة 1989-1991، يمر العالم اليوم بتغيرات في النظام العالمي ، ولنا كل الحق في أن نطالب الخبراء الاستراتيجيين بأن يكونوا قادرين على تقييم وتحليل، واقتراح الأساليب لضمان المصالح الوطنية الأمريكية، في هذه البيئة المتغيرة، ولكن صناع سياستنا يتعين عليهم أن يكونوا مستعدين لقبول مسؤولياتهم والإقدام على الخيارات الصعبة، لترجمة الاستراتيجية إلى سياسة.