‬كان من حسن حظي أن وقعت بين يدي تحفة توفيق حكيم "يوميات نائب في الأرياف"، حيث الريف المصري القديم يتمثل لناظره بكل صغيرة وكبيرة منه، وحيث تعيش يومًا بيوم مع الشاب توفيق الحكيم في حجرته الصغيرة التي تعلوها مروحة سقف لا تعمل ويخنقها الحرّ الشديد وتعج بالأوراق التي تحكي عن مظلمات أصحابها، إن توفيق في صفحات هذه المذكرات لا يؤلف ولا يخترع شيئًا جديدًا ولا يُوجد ما لم يكن من قبل، بل هو يوثق قصصًا وحكايا وواقعًا عاش فيه حينها، وهذا ما تعنيه اليوميات، وحينما يتقادم الزمان وتُنسى هذه البقعة من العالم وتسدل عليها السنون ستارها ويتبدل الناس وتتبدل أحوالهم، تصبح تلك اليوميات حينها جزءًا مهمًا وأمينًا جدًا يصف لا حياة بسيطة بل تاريخ كُتب بكل براعة وصدق وأمانة، وهو فوق ذلك ممزوج بفكاهة كاتبها، متشرّبٌ روحه الساخرة، وعينه الناقدة، وآراءه اللاذعة التي قرأها العالم من بعده، وهو حين سجلها لم يتخيل قط أن أحدًا في هذا العالم الواسع سوف يقرؤها فضلًا عن أن يستقبلها بكل هذه الحفاوة.

"يوميات نائب في الأرياف" يحكي لنا فيها توفيق الحكيم عن أيام عمله كوكيل نيابة في جزء صغير ومهمش ومنسي من ريف مصر عام 1937، ويسرد فيها بتفصيل هيئة القضاة الذين يعمل معهم، ومحاكم حقيقية مكتوبة ببراعة ومحاورات الفلاحين مع جناب القاضي ودفاعهم عن أنفسهم والظلم الذي يحيق بهم من جراء القوانين التي لا يفهمها ولا يعيها أكثرهم وهم في معظمهم قوم أميون لم يخبروا من الدنيا سوى زرعهم وأفنية ديارهم البسيطة، ويتخلل ذلك كله قضية غامضة لجريمة قتل، ولا شك أن هذه الكلمة تحرك الكوامن الخفية من الإثارة وحبس الأنفاس في صدور عشاق أجاثا كريستي ومحبي الجرائم البوليسية، لكن ليس هذا هو الحال هنا، فهي قضية سوف تموت بطلتها الجميلة الوحيدة، ولن يُعرف فيها جانٍ ولا سبب! وما أوردها الكاتب إلا ليدلل بها على ألوف غيرها راحت فيها دماء ضحاياها هباء دون أن يعبأ بذلك مسؤول رفيع المنصب كما يحتم عليه، بل إن جل ما يشغل بالهم ويعنيهم تمام العناية هو أن تحفظ تلك القضية "لأن الجهات العليا يهمها ويطمُنها التصرف في القضايا أي (نفض اليد) منها على أية صورة وعلى أية جهة" لئلا تعمّ الفوضى وكي تتم الإحصائيات التي تهم كبار المسؤولين بكل دقة.

وإن المتعة كل المتعة هو أن تقرأ لكاتب يحكي لك من صميم حياته، من قلب مجتمع خبره وعاش فيه شيئًا من عمره ورأى أهله رأي العين وعاشرهم ولبث فيهم بضع سنين، لأنك حينها سوف تعيش تفاصيل لن تقرأ عنها في مكان آخر، وهذه التفاصيل الصغيرة التي تنثر كالزغب بين سطور القصة الأصلية هي من تذيقك تلك المتعة الخالصة، إنها حياة كاملة تحياها في زمن قبل زمنك ومع قوم اندثروا ورحلوا وبقيت لك نتفًا من حكايتهم، مثلها في ذلك مثل رائعات نجيب محفوظ وليو تولستوي وهاروكي موراكامي وأحمد خالد توفيق، وكل كاتب ينزع مدنًا وقرى وذكريات وأناسًا وأزمنة وأحزانًا وأفراحًا ثم يخيطها بقلمه عصبًا بعصب، ممزوجة بآرائه وأطروحات فكره ونظريات لطالما عاشت في صدره وعثر لها على متنفسٍ أخيرًا.

الرواية تُرجمت إلى اللغة الفرنسية، حيث صارت رائجة للغاية وصدر منها عدة طبعات، وحُولت لفيلم مصري أنتج عام "1969" من إخراج توفيق صالح، ومن بطولة أحمد عبد الحليم وتوفيق الدقن وراوية عاشور، وكعادة الأشياء القديمة رغم أن الفيلم غير ملون إلا أنه كان نابضًا بالحياة وناطقًا أمينًا عن أوجاع الفلاحين البسطاء تمامًا كما كانت كلمات الرواية التي اقتبس عنها لتوفيق الحكيم.