قبل الحرب العالمية الثانية، كان الجنيه البريطاني هو "العملة الاحتياطية" في العالم، ولكن الحال تغيرت بعد أن تحولت البوصلة إلى الولايات المتحدة الأميركية بعد الحرب، حيث كانت في ذلك الوقت تملك أقوى اقتصاد وأكبر قدر من احتياطيات الذهب في العالم.
في مؤتمر بريتون وودز عام 1944، تم ربط الدولار الأميركي بالذهب بسعر 35 دولارًا للأونصة، وكانت جميع العملات الأخرى مرتبطة بالدولار الأميركي بأسعار صرف ثابتة، وهذا جعل الدولار "العملة الاحتياطية العالمية"، مما يعني أنه كان العملة الوحيدة المقبولة في جميع أنحاء العالم لتسوية التعاملات التجارية الدولية.
وفي الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن الماضي، حفز الإنفاق الخارجي لحكومة الولايات المتحدة من أجل توسيع النفوذ السياسي والعسكري، لتهافت الحكومات الأجنبية على احتياطيات الذهب الأميركية. ردًا على ذلك، أنهى الرئيس ريتشارد نيكسون الربط بين الدولار الأميركي والذهب في عام 1971، ومنذ ذلك الحين، لم يكن هناك دعم سلعي لأية عملة في العالم؛ وهذا بطبيعة الحال أدى إلى ارتفاع معدلات التضخم وانخفاض مستويات المعيشة.
صنف المراقبون هذا القرار التاريخي على أنه بداية تهشيش كيان الاقتصاد الأميركي، وفي هذا السياق قال الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان: "ما من دولة عظيمة تخلت عن معيار الذهب بقيت أمة عظيمة على الإطلاق". وقد أصاب الرئيس ريغان بذلك كبد الحقيقة، فمنذ ذلك القرار بدأ الميدان الاقتصادي ينحسر من تحت أقدام الولايات المتحدة الأميركية، لصالح دول لم تكن تحلم بالجلوس على طاولة الكبار.
اليوم أصبحت الصورة أكثر وضوحًا؛ لأن الهيمنة الأميركية بقيادة الدولار - الذي خذلته إدارة الرئيس نيكسون - تتجه نحو مثواها الأخير. ولم تعد التهديدات في شكل قطبي كما في السابق، وإنما هي متعددة الأقطاب، ونخص بالذكر هنا مجموعة "بريكس" التي تتكون من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، هذه الدول التي تشكل حوالي 42 في المئة من سكان العالم و 32 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
اجتمعت هذه الدول بعد أن سئمت من الخضوع للدولار الأميركي والسياسة النقدية الأميركية، خاصة في السنوات الأخيرة، فقد بدأت مجموعة بريكس مبادرات مثل بنك التنمية الجديد لإقراض البنية التحتية، وترتيب احتياطي طارئ للحماية من ضغوط الصرف الأجنبي، ونظام دفع بريكس كبديل لجمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك (سويفت).
هذه التطورات ستؤثر بدون شك على مكانة الدولار، ولكن قد لا يحدث ذلك في القريب العاجل؛ وذلك يعود لأسباب جوهرية تتلخص في أن الولايات المتحدة تملك ميزات تنافسية، تتمثل في أنها تملك أكبر سوق للسندات الحكومية وأكثرها أمانًا، ولكن هذه المعادلة قد تتغير في ضوء تنامي التوتر مع بكين، وفي هذا السياق ذكرت صحيفة جلوبال تايمز الصينية: "إن بكين ربما تخفض تدريجيا حيازاتها من سندات الخزانة الأميركية وأوراقها".
وفي سياق الميزات التنافسية أميركا تتمتع بسمعة طيبة في فرض سيادة القانون، ولا توجد ضوابط وقيود على رأس المال؛ ولكن المراقب للمشهد الأميركي يدرك بأن هذه الميزات التنافسية تحتضر لذلك نلاحظ التحركات القوية والمتسارعة من قبل دول العالم نحو الاتجاه المعاكس لأميركا التخلي عن أميركا والدولار سيتطلب تحولات كبيرة من قبل الدول المنافسة وسيكون أمرًا صعبًا ومكلفًا، نظراً إلى أن هذه الكيانات غير الأميركية لديها 12 تريليون دولار من الديون المقومة بالدولار الأميركي والتي يتعين عليهم سدادها بالدولار.
.
التعليقات