يمكن تلخيص ماهية "الأدب" في تعريف أدبي هادف، بأن معنى "الأدب" في الأصل اللّغوي مأخوذ من "مأدُبة"، أي الطعام الذي يُدعى إليه الناس.. ولذلك كان معناه في الاصطلاح يشمل التثقيف والتهذيب في العقل والشعور، فكما أن الطعام يُغذّي الأبدان، فإن الأدب يُغذّي الوجدان.

والإنسان مهما بلغ في العِلم، إذا لم يتعلّم الأدب، فلسوف يبقى ناقصاً!

والإمام الشافعي -وهو العالِم الأديب- كان يقول: (من نظَر في العربيّة وحفِظ الشّعر؛ رقّ طبعُه)، فهذه هي مادّة الأدب التي في دراستها تتفتّح آفاق التفكير.

وللأدب غايات ثلاث: حُسن تعبير، ثم جمال تصوير، ثم تسجيل حقيقة نسيها الناس، أو لعلّها كانت من الظهور والبداهة والقُرب، بحيث عميَتْ عنها العيون.

والحقيقة أن الأديب لا يستهدف هذه الغايات منفصلةً، بل هو لا يكاد يستهدفها أصلاً.. إن نفسه تجيش بما تجيش، فيقول ما يقول، فيكون أدباً، مثَل ذلك القائل:

زوّدينا من حُسن وجهكِ، ما دام،

فحُسن الوجوه حالٌ تحولُ

وصِلينا نصلكِ، في هذه الدّنيا،

فإن المُقام فيها قليلُ

خليط من حُسن تعبير، إلى روعة جَمال، إلى حقيقةٍ تُقرّر، ما كان ليستطيعها إلا شاعر جبّار "كالمُتنبّي"!

ثم أن الأدب عند الذين يعرفون حقيقته وجلال شأنه، ليس مُجرّد حلية وزينة وأحاديث طليّة شائقة لتزجيَة الوقت ودفع الملل، وإنما هو لازمة من لوازم الحياة الحقّة؛ فهو الذي يوقظ المشاعر الغافية ويُنبّه روافد النفس ويهزّها هزّاً!

انظر إلى "أبي تمّام" حينما قال عن قدوم الربيع:

دُنيا معاشٌ للورى، حتى إذا

قدِم الربيع، فإنما هي منظرُ

قد كشف لنا عن فكرة كانت تختلج بنفوسنا وبصرنا في الربيع، واستطاع أن ينقل إلينا شعوره وإحساسه، وهو لذلك قد صنع شِعراً وأنتج أدباً. لأن الأدب الحقّ هو الذي يُبصّرنا بعجائب الكون وغرائبه ومحاسنه ومفاتنه. وعباقرة الشّعر والأدب كانت مشاعرهم أقوى، وخيالهم أوسع. فهُم يرفعوننا فوق الهموم الصغيرة، والمشاغل الضئيلة، ويعلّموننا كيف نتذوّق الحياة ونستطيبها ونستمتع بها.

وللذوق الأدبي لذّة كلذّة الطعام والشراب -كما قد أسلفنا- وكلمة الذوق، كانت في بادئ أمرها مقصورة على وظائف الفم واللسان، وتمييز أنواع الطعام والشراب، وقد نُقل معنى الذوق من المعنى الحِسيّ المادي، إلى معنى أشمل وأدقّ وأسمى.

والأديب يمتاز بمقدرته على الإدراك الذوقي، أو ما يُسمّى بالتعبير؛ أي أن الصورة الشاملة الواضحة التي تتكوّن في نفس الأديب هي عينها التعبير الذي يُصوّره على شكل مقالة أو قِصّة أو قصيدة.

ولا يبتعد الفنّان كثيراً عن الأديب في ذلك، فقد قال الفنّان الكبير "مايكل أنجلو": (أن المُصوّر إنما يرسم الصّور بذهنه، لا بيده).

ويوضّح الفنّان الكبير الآخر "ليوناردو دافنشي" ذلك، حين طُلِب إليه أن يرسم صورة "العَشاء الأخير"؛ أنه قضى أيّاماً يتأمّل الصورة، قبل أن يلمس فيها لمسة واحدة بريشته.. وقال في ذلك الموقف: (أن عقول العباقرة من الناس، تكون أشدّ نشاطاً في ابتكارها عندما لا يقومون إلا بعمل خارجيّ قليل).

ونعود إلى الأديب، الذي وسيلته هي عبارته اللفظية، وأدواته هي الكلمة، والكلمة مُلكٌ مُشاع للناس جميعاً، كالأفكار التي قال عنها "الجاحظ" أنها: (مُلقاة على قارعة الطريق، والمُهمّ كيف نتناولها)؛ فالأديب يستطيع أن يستخدم الألفاظ ليُحقّق بها غايته، في تأدية الصّور التعبيرية الخارجية لينقُل بها ما عنده، سواء أكان عنده صوَراً للمشاعر أو للمعاني أو للأشياء.

والعبارة اللفظية التي يؤدّي بها الأديب معناه، تمتاز بالمقدرة على تحدّي الزمان والمكان، ومن أجل هذا يُطلق الناس أحياناً صِفة الخلود على الأثر الأدبي، إذا كان ممّا يستطيع أن يؤثّر في الإنسانية عامّة على اختلاف أبعاد المكان، وأن يؤثّر في الأجيال المتعاقبة على اختلاف أبعاد الزمان.

وهناك إضافة أخرى تُضاف إلى وصف انتاج الأديب، وهي أنه يمتاز بما يُمكن أن يُسمّى باللّمح الذوقي. ومن الأمثلة القريبة البسيطة على هذا اللّمح بيت "امريء القيس":

وليل كموج البحر أرخى سدوله

عليّ بأنواع الهموم ليبتلي

فقد أخذ عُلماء البلاغة يبحثون عن سرّ الابداع في هذا البيت، فقالوا في ذلك أقوال شتّى، لا أظن أنهم استطاعوا أن يكشفوا فيها عن ذلك السرّ. ولكن الظاهر الواضح من أسلوب الشاعر، أنه حين شبّه اللّيل بموج البحر، لم يقصد ذلك التشبيه لأنه حلية يُرصّع بها تعبيره اللّفظي، بل قصد إليه لأنه الأداة الوحيدة المُعبّرة الصادقة عن صورته النفسية.

ومن هذا القبيل ما اهتدى إليه "النابغة الذبياني" في وصف الملك المخيف "النعمان" ذي السطوة الجبّارة، حين هرب الشاعر منه، وصار طريداً في الأرض، لا يجد فيها مهرباً منه، ولا ملجأً يُشعره بالأمان على نفسه، فقال يصفه:

فإنك كاللّيل الذي هو مُدركي

وإنْ خِلتُ أنّ المُنتأى عنك واسعُ

ومثل هذه اللّمحات، هي التي يُسمّيها البلاغيون من المُحسّنات المعنوية، كأنما هي وُضعتْ فوق كائن لتزيده روعة، وما هي إلا الكائن الجميل الرائع نفسه.