مع تحسن الحالة الاقتصادية لبلادنا بعد توحيدها على يد المؤسس الراحل الملك عبدالعزيز –طيب الله ثراه- وبعد أن تم اكتشاف النفط وتصديره بكميات تجارية والتوسع العمراني السريع للمدن والبلدات باتت الحاجة إلى شراء أراضٍ خارج أسوار المدن والبلدات من أجل السكن أمراً ضرورياً للعديد من الأسر، فشهد العقار تصاعداً بعد أن شقت الطرق، وتم تعويض ملاك المنازل التي دخلت في التنظيم، مما جعلهم يفكرون في بناء منازل جديدة، فنشأت أحياء جديدة وبات السعر للأراضي بالمتر بعد أن كان يقاس بالذراع، وكانت الأسعار في البدايات بالقروش والتي كانت لها قيمة في ذلك الوقت، ومن ثم زاد السعر وبات بالريالات.
ونظراً لكثرة الإقبال على شراء الأراضي فقد كانت المزارع القريبة من المدن تتحول أحياء سكنية، حيث يتم تخطيطها وعمل شوارع خلالها، فتقطع إلى أراضٍ سكنية ومن ثم تطرح للبيع، ومن هنا جاءت فكرة المساهمات العقارية، حيث يتم شراء أرض خام أي مترامية الأطراف دون أي تخطيط، ومن ثم يتم تخطيطها وتقسيمها إلى أراضٍ سكنية ومن ثم تطرح هذه الأراضي للبيع، ونظراً لكلفة هذه الأرض وعدم مقدرة شخص واحد على شرائها فقد كان أحد التجار ويسمى في زماننا هذا المطور العقاري بطلب شرائها من صاحبها، وإذا اتفقا على السعر يقوم بإعلان مساهمة عقارية لمن حوله في أحد المكاتب العقارية ممن يملكون المال ويحبون الاستثمار ويشركهم في شراء الأرض فيقوم بتقسيم سعرها على شكل أسهم، وكل سهم بمقدار مالي من قيمة الأرض، فعلى سبيل المثال: إذا كانت قيمة الأرض مليون ريال يقسمها إلى مائة سهم بقيمة عشرة آلاف ريال لكل سهم، فيساهم الناس فيها ويدفعون المبلغ وينتظرون إلى أن يتم تطوير الأرض وتقسيمها إلى قطع سكنية محدودة بشوارع مختلفة الأطوال، وبعد ذلك يتم طرح القطع السكنية والإعلان عنها لمن يريد أن يشتري قطعة أرض وعند اكتمال البيع وتحصيل المبلغ يتم توزيع الأرباح على المساهمين كل ورأس ماله، حيث يحصل كل مساهم على ربح قد يصل إلى أضعاف ما دفعه في المساهمة وذلك في غضون أشهر قليلة.
وقت وجيز
واستمر الحال على ذلك فترة من الزمن، وكانت جل تلك المساهمات ناجحة ويحكم تعاملاتها جانب الثقة، ومع مرور الوقت وبعد عقود من الزمن بدأت العديد من المساهمات العقارية في التعثر، فطال الزمن على المساهمين من أجل الحصول على الأرباح، ومع مرور الزمن بات المساهمون يسعون في الحصول على رأس المال فقط، وخسر المساهمون أموالهم ومرت سنين عدة على وضعهم دون أن يتغير شيء، وفي العقود الماضية حصلت ثورة في المساهمات العقارية بعد أن أثبتت أنها الطريق السهل والسريع لتحقيق الأرباح المضاعفة في وقت وجيز، فزادت المساهمات العقارية في كثير من مدن المملكة، ولكن العديد من هذه المساهمات خاصة الكبرى واجهها التعثر، وامتلأت أروقة المحاكم بالدعاوى القضائية التي تطالب أصحاب هذه المساهمات العقارية بسرعة بيع تلك المساهمات وإعطاء المساهمين أموالهم والأرباح إن وجدت، ولكثرة تلك القضايا وتضرر المساهمين فقد تشكلت لجنة المساهمات العقارية -تصفية- بقرار مجلس الوزراء في 22 /8 /1426هـ لإنهاء المساهمات العقارية القائمة قبل تاريخ 22 /8 /1426هـ بأفضل عائد، وأسرع وقت ممكن، وإعادة حقوق المساهمين.
أمانة وسمعة
وكانت المساهمات العقارية في بداياتها الحل الأمثل للاستثمار بل والأسهل، وفي أحيان كثيرة الأسهل تناولاً للجميع مهما كان المبلغ، والمشاركة مفتوحة للجميع، ولم يكن هناك رقيب على تلك المساهمات وإنما تحكمها الأمانة والسمعة الطيبة من صاحب المساهمة، إضافةً إلى الخبرة التي يكتسبها والأرباح التي يحققها، وكانت البدايات بسيطة ولم يكن هناك معوقات، فعلى من يريد أن يطرح مساهمة يقوم بالبحث عن أرض خام بالقرب من الأحياء السكنية وبقوم بمساومته مالكها على سعر معين ومن ثم بعد الاتفاق على سعر مناسب يقوم بعرض ذلك على من يريد المشاركة، ثم يقوم بواسطة مكتب عقاري بتقسيم الأرض إلى قطع ويصدر سندات قبض ويتم تدوين اسم المساهم والمبلغ الذي دفعه ويختم بختم المكتب، وبعد اكتمال المبلغ تقفل المساهمة ومن ثم يعرض المخطط للبيع ويعلن عن ذلك في يوم محدد، ويبدأ حراج البيع على القطع حتى نفاذها، ومن ثم تجمع أموال البيع ويخصم منها أتعاب المكتب في عملية تخطيط الأرض وتقطيعها وما يلحق ذلك من رسوم بلدية إن وجدت، وبعد ذلك يتم صرف الأرباح على المساهمين كل وحسب أسهمه التي شارك بها.
مال اليتيم
وكان جل المساهمات العقارية التي في بداياتها ناجحة وحققت أرباحاً مغرية، ولكن بعد عقود من الزمن بدأ يظهر التعثر في عدد من المساهمات، مما حدا بالبعض ترك تلك المساهمات خوفاً من الوقوع في حالات التعثر وضياع رأس المال، وبات من يريد الدخول في مساهمة يدقق أكثر ويتحرى ويسأل عن صاحب المساهمة وتاريخه في ذلك، فإن وجد أنه ممن يتصف بالأمانة والصدق توكل على الله وساهم وإلاّ تركه حفاظاً على رأس ماله من الضياع، ويحكي هذا الواقع قصة رجل كان لديه يتيم ولديه مال له يبلغ سبعين ألف ريال، فأراد أن ينمي هذا المال، فسمع عن مساهمة عقارية في مكتب عقاري فذهب إليه ودفع كل مال ذلك اليتيم في المساهمة، وانتظر شهوراً ولم تبع تلك المساهمة، فذهب إلى صاحب المكتب وطلب منه إرجاع رأس مال ذلك اليتيم الذي دفعه إليه فأخذ يماطله واستمر على ذلك شهوراً، ومن كثرة إلحاحه وحضوره قام صاحب المكتب بمفاوضته كحيلة للتخلص منه بأن يدفع له خمسين ألف ريال ويترك الباقي إلى حين انتهاء المساهمة فوافق على مضض، فكتب له صاحب المكتب شيكاً بذلك، ولما ذهب ليصرف الشيك تفاجأ بأن الرصيد لا يكفي، فقام بحيلة ذكية وطلب من بعض العاملين في البنك بأن يخبره كم الرصيد المتوفر بعد أن شرح له أن هذا المال مال يتيم ويخشى عليه الضياع من صاحب المكتب والمساهمة المخادع فأخبره، وكان المبلغ ينقص ألفين، فقام على الفور وأودع في حساب هذا المخادع صاحب المبلغ ألفين ومن ثم صرف الشيك، ومن الغد توجه إلى صاحب المكتب وأخبره بأنه صرف المبلغ بعد أن أودع في حسابه ما يغطي الشيك، وأحضر معه بساطاً وجلس بالقرب من باب المكتب وصار كل من يأتي يتلقاه ويحذره من التعامل معه، وأنه مخادع، ويسرد له قصة مساهمته معه، فغضب صاحب المكتب ولم يجد له طريقاً للتخلص من هذا الرجل إلاّ أن دفع له باقي قيمة المساهمة، وهكذا بحيلته وصبره استطاع أن يعيد مال هذا اليتيم، واكتسب درساً في عدم التساهل في تنمية المال إلاّ بشيء شبه مضمون.
إعادة الحقوق
وبعد أن كثرت المساهمات العقارية وازدادت الشكاوى من قبل المساهمين الذين يطالبون الجهات المختصة بالمساعدة في رجوع أموالهم إليهم، فقد تأسست لجنة المساهمات العقارية "تصفية"، حيث تشكلت اللجنة بقرار مجلس الوزراء بتاريخ 22 /8 /1426هـ لإنهاء المساهمات العقارية القائمة قبل تاريخ 22 /8 /1426هـ بأفضل عائد، وأسرع وقت ممكن، وإعادة حقوق المساهمين، وتتشكل اللجنة من محافظ الهيئة العامة للعقار رئيسًا، وأعضاء يمثلون الوزارات التالية: وزارة الداخلية، ووزارة المالية، ووزارة العدل، ووزارة الشؤون البلدية والقروية والإسكان، ووزارة الطاقة، وكذلك اثنين من ذوي الخبرة والاختصاص، وتكون مهمات هذه اللجنة ما يلي: النظر في جميع المساهمات العقارية القائمة -المرخص لها وغير المرخص- وقت صدور قرار مجلس الوزراء، وتكليف من تراه من مكاتب المحاسبين القانونيين لإعداد مركز مالي لكل مساهمة، وإعداد تقارير مفصلة تشمل سجل المساهمين وحقوقهم المالية والجوانب القانونية والفنية للمساهمة، ورفع تقارير دورية عنها، ومتابعتها حتى تصفيتها بما يحفظ حقوق المساهمين، وإسناد أي مساهمة لمصفٍّ قانوني –إذا رأت اللجنة مسوغًا لذلك–، ولها أن تحيل إلى الجهات القضائية المختصة من يثبت لديها أنه متحايل أو غير مستجيب أو مسيء لاستخدام أموال المساهمة، وتحديد أتعاب ومصروفات من تستعين به من المكاتب المحاسبية والقانونية والهندسية وغيرها، واحتسابها من مصروفات المساهمة، وإعداد تقرير نصف سنوي عن أعمالها، ورفعه إلى مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، وإعداد آلية لعملها تمكنها من حفظ حقوق المساهمين وتصفية هذه المساهمات.
حقوقكم أمانة
وساهمت لجنة المساهمات العقارية "تصفية" في حل كثير من المساهمات المتعثرة، وقد حققت الكثير من الجهود في ذلك، حيث استعادت منذ تشكيلها أكثر من 11 مليار ريال لصالح المساهمين، وأوضح المتحدث الرسمي للجنة مشعل العنزي في حديث صحفي بأنه خلال الربع الأول من 2022م استعادت اللجنة أكثر من أربعة مليارات ريال، وحررت أكثر من خمسة ملايين متر مربع فقط على مستوى مناطق المملكة، وهو ما يمثل حراكاً للاقتصاد والسوق العقاري، ونجحت "تصفية" في الربع الأول من هذا العام بإقامة أربعة مزادات في مختلف مناطق المملكة، بمساحة إجمالية تقدر بـ5.5 ملايين متر مربع، وبمبلغ إجمالي يتجاوز 4.3 مليارات ريال، كما تمكنت من صرف مبلغ يقارب 419 مليون ريال للمساهمين المستحقين، وكشفت لجنة المساهمات العقارية تصفية عن وجود مبلغ 254 مليون ريال لديها تعذّر الوصول إلى أصحابها المساهمين، وأكد الأمين العام للجنة المساهمات العقارية -تصفية- الدكتور بدر بن عبدالله الشويعر أن اللجنة منذ تأسيسها تمكنت بفضل الله من استعادة ما يقارب 6.6 مليارات ريال بعد تصفية عدد كبير من المساهمات العقارية المتعثرة في مختلف مناطق المملكة وَفْق الإجراءات والآليات المعتمدة في نظام اللجنة، وأوضحت تصفية أن المبالغ التي تعثر الوصول لأصحابها دفعها لإطلاق المرحلة الرابعة من حملة "حقوقكم أمانة"، ضمن جهودها المبذولة في متابعة المساهمات العقارية المتعثرة، وإنهاء ملفاتها الشائكة التي شكّلت عبئاً اقتصادياً واجتماعياً وهمّاً مؤرقاً للجهات القضائية والدوائر العدلية، وتسببت في العديد من المتاعب للمساهمين وأصحاب الحقوق الذين تمكنوا بفضل الله ثم جهود اللجنة المبذولة من استرداد أموالهم ومستحقاتهم، وتهدف الحملة إلى إشراك أفراد المجتمع في عملية البحث عن المساهمين، وتوعيتهم بطرق الاستفسار والاستعلام والبحث التي وفرتها اللجنة بشكل ميّسر.
مشروع المساهمات
وفي ظل الجهود الرامية إلى الحفاظ على أموال المساهمين في المساهمات العقارية فقد أوضح مشروع نظام المساهمات العقارية الجديد أن هناك ثلاث حالات يتم فيها إحالة أصحاب المساهمات العقارية إلى النيابة العامة والمحاكم المختصة، وهي: أن يقوم بطرح مساهمة عقارية أو الإعلان عنها أو التسويق، أو جمع الأموال لها دون الحصول على ترخيص من هيئة العقار، وتعمد استعمال الصلاحيات الممنوحة بموجب النظام واللائحة على نحو يضر بمصالح المساهمين في المساهمة العقارية أو استعمالها في أغراض شخصية أو محاباة لشخص آخر، وكل مرخص له أو مدير مساهمة يتسلم مبالغ الاشتراك بالمساهمة العقارية بشكل مخالف للنظام أو اللائحة، وبحسب مسودة النظام فإن عقوبة المخالفة الأولى تتمثل في السجن لمدة ثلاث سنوات وغرامة مالية تصل إلى مليون ريال، وعقوبة المخالفة الثانية بالسجن لمدة سنتين وغرامة مالية تصل إلى مليون ريال، وعقوبة المخالفة الثالثة السجن لمدة سنة وغرامة مالية تصل إلى 500 ألف ريال، ويهدف المشروع الجديد إلى الحد من التلاعب بالمساهمات، وحماية جميع الأطراف، ورفع مستوى الشفافية والإفصاح، وتنظيم نشاط المساهمات العقارية، والحد من تعثر المشروعات، وكذلك تعزيز حيوية القطاع العقاري، ووجود منصة إلكترونية موحدة لطرح المساهمات وإدارتها.




التعليقات