مضى على رحيله وانتقاله إلى دار البرزخ سبعة وستون عاماً، لكن ذكراه مازالت بين الباحثين والقراء، فكتابه بل موسوعته (صحيح الأخبار) نقشت اسمه، فأصبح نقشاً في حجر لا يمكن زواله على مدى الأحقاب وتوالي السنوات والأعوام، محمد بن بليهد -رحمه الله- من أولئك الأشخاص الذين أثبتوا أنفسهم كرحالة جوال في أنحاء نجد وخارج نجد باحثاً ومنقباً عن المواضع الجغرافية، فهو من أوائل القوم إن لم يكن أولهم ممن سلك هذا الميدان الفسيح في وقت مبكر جداً، فله فضل السبق والريادة في الجغرافيا التاريخية الحديثة، وقصة (صحيح الأخبار) كيف ألفها؟، سردها ابن بليهد في مقدمة موسوعته، حيث خلّدت اسمه في المكتبة العربية، وفي هذه السطور نجسد شخصية أحد أعلام الوطن من باب الوفاء لها وتقديراً لجهودها في الجغرافيا التاريخية وريادتها في هذا المجال.
هو الأديب الأخباري الرواية المؤرخ النسابة محمد بن عبدالله بن بليهد من مواليد عام 1310هـ، وتاريخ ميلاده هذا تقريبي؛ لأنه يقول عن نفسه أنه شارك مع الملك المؤسس في ضم الحريق وكان عمره سبعة عشر عاماً، وتلك الأحداث كانت في 1328هـ، ومن الممكن أن يكون ميلاده عام 1311هـ، أمّا العلامة خير الدين الزركلي في كتابه (الأعلام) في ترجمته الحافلة عن ابن بليهد فأثبت أن ميلاده عام 1300هـ وهذا غير دقيق، وأمّا مكان الميلاد فهي غسلة -كما تسمى الآن وفي القديم ذات غسل-، وتعلم أبجديات القراءة والكتابة وكانت موهبة الحفظ والاستيعاب كامنة فيه، فكل ما يسمعه أو يشاهده يكون مخزوناً في ذاكرة حديدية بطيئة النسيان، لهذا كانت الذاكرة المسعفة له حينما ألف موسوعته (صحيح الأخبار)، حيث دعمته بالشواهد الشعرية الفصيحة والشعبية، وصورة المواقع الجغرافية كانت حاضرة لديه ومشاهدة، فهو حافظ ومن كبار رواة الشعر ومسامر ونديم.
مطلع وقارئ
ومحمد بن بليهد -رحمه الله- أحب القراءة والاطلاع في كتب الأدب والتاريخ القديمة مثل موسوعة (الأغاني) لأبي الفرج، و(العقد الفريد) و(عيون الأخبار)، فهو رواية للشعر الفصيح، حفظ الكثير من نصوصه واستوعب أيام العرب، وهذا يتجلى في موسوعته (صحيح الأخبار) وحينما يورد موقعاً من المواقع ينص على أن هذا المكان حدثت فيه معركة في الجاهلية أو في العصر الحديث القريب جداً، فابن بليهد كوّن نفسه بنفسه ثقافياً وأدبياً ينهل من كتب التراث منذ بواكير شبابه، فضلاً لقراءته لدواوين العرب المتوفرة آنذاك، فهو قارئ حصيف، وقد تحدث عبدالله بن محمد بن بليهد عن والده -عبر لقاء أجريته معه- قائلاً: "في صغري كنت أحضر مجالس الوالد التي يحضرها أدباء وعلماء، وتعلمت منها الكثير في الأدب واللغة، وأيضاً لدى والدي مكتبة أقرأ منها بعض الكتب في الأدب والشعر وغيرها، ولقد تأثرت بوالدي وتعلمت منه الكثير من خلال فكره وثقافته وعلمه، وكذلك بعض صفاته".
رجل عالم
وكان محمد بن بليهد -رحمه الله- يغتنم فرصة لقائه بأحد العلماء فيجالسهم ويفيد منهم، وقال د. محمد بن سعد بن حسين عن ابن بليهد في كتابه (محمد بن بليهد وآثاره الأدبية): "لقد اتصل ابن بليهد في أول حياته بعدد من العلماء وسمع منهم مثل: عبدالرحمن بن عودان، وأحمد بن عيسى، وإبراهيم بن عيسى، وناصر بن سعود الملقب شويمي، وعبدالله بن عمار، وجلس إلى الشيخ عبدالله بن سليمان بن بليهد كثيراً وصحبه في بعض أسفاره وسجل بعض ذكرياته" -انتهى-.
ويذكر أحد الباحثين الذي تحدثوا عن ابن بليهد قائلاً: "رجل عالم يحسب من العلماء أكثر مما يحسب من أهل الشعر".
خبير بالجزيرة العربية
وترجم العلامة خير الدين الزركلي في موسوعته (الأعلام) -في المجلد السابع- لابن بليهد، وهي كما قلت آنفاً ترجمة حافلة تفرح القارئ المهتم بالتراجم والسير، يقول الزركلي: "خبير بمسالك الجزيرة العربية له نظم قريض وملحون"، ثم قال: "وتنقل في بوادي شبه الجزيرة العربية مع الملك عبدالعزيز، وتاجراً وجابياً ودليلاً، فاستفاد خبرة بمنازلها وأوديتها وسهولها وجبالها ومناهلها، وصنف (صحيح الأخبار) عما في بلاد العرب من الآثار خمسة أجزاء، أقام في مصر نحو عامين للإشراف على طبعه، مستدركاً ما أغفله متقدمو جغرافي العرب كالبكري وياقوت، ولعله اتجه نحو هذا في كتاب آخر له سماه (ما اتفقت أسماؤه واختلفت أنحاؤه)، وأضاف الزركلي: "وكان في علمه بمسالك قلب الجزيرة ثقة عند كثير من العارفين بها" -انتهى-.
وعلّق العالم علي جواد الطاهر -رحمه الله- بعدما نقل ترجمة ابن بليهد من كتاب (الأعلام) بعد كلام طويل ومسهب عن مؤلفات ابن بليهد قائلاً: "وكتاب ما تقارب سماعه وتباينت أمكنته وبقاعه صدر بتحقيق د. محمد بن سعد بن حسين، وهو الكتاب الذي مر معنا مخطوطاً باسمين مختلفين" -انتهى- (من معجم المطبوعات العربية في المملكة العربية السعودية).
من أدباء نجد
وترجم المؤرخ صالح بن عثيمين في كتابه (تسهيل السابلة) لمحمد بن بليهد بترجمة مفيدة، وهو معاصر لابن بليهد ولا يستبعد أنه التقى به في مكة المكرمة، وتحدث معه، فابن عثيمين مقيم في مكة منذ كهولته وابن بليهد استقر مدة من الزمن في مكة؛ لأنه كان في معية وخاصة نائب الملك في الحجاز صاحب السمو الملكي الأمير فيصل -الملك فيما بعد-، يذكر ابن عثيمين واصفاً إياه بأنه الأديب البارع النسابة المؤرخ المتضلع النبيه اللوذعي، ثم قال: "وسافر إلى بلدان شاسعة وأكثر الرحلة والتجواب، وانفرد بمعرفة شعراء العروبة وأدبائها في عصر الجاهلية والإسلام إلى يومنا هذا، ولا سيما الشعر البدوي ومعانيه وروائيه وضبطه، ومعرفة المواقع التي تذكر في المعاجم وغيرها ومواضعها الصحيحة وأسمائها القديمة والحديثة وأسباب تسميتها"، وبعدها ختم ابن عثيمين حديثه عن ابن بليهد قائلاً: "وبالجملة فهو من أدباء نجد المنفردين الأفذاذ، وكان على جانب عظيم من الأخلاق الحسنة والسخاء ولين الجانب وحلو المفاكهة وكثرة الطرائف والظرائف" -انتهى-، هذا كلام يدل على أن ابن عثيمين جالس المؤرخ ابن بليهد وعرفه حق المعرفة، وخبر شخصيته وأخلاقه وعلمه وثقافته، وهي شهادة مقدرة من عالم كبير نحو علم من أعلام الجزيرة العربية كان اسمه ملء السمع والبصر في زمنه وطارت شهرته حينما ألف موسوعته (صحيح الأخبار).
خير عون
وسرد حمد الجاسر انطباعته عن المؤرخ محمد بن بليهد قائلاً: "هو خير من يستشهد بقوله في هذا، لقد عرفت رجلاً من خيار أبناء بلادنا كرماً وسماحة نفس وشهامة ومسارعة إلى فعل الخير ومحبة لمساعدة الناس، كان بيته مقصداً لمن عرفه من الناس من تجار وفقراء، من بدو وحضر، من ذوي الحاجة ومن ضيوف"، ويؤكد حمد الجاسر على الجانب الأخلاقي في شخصية ابن بليهد قائلاً: "كان يتفقد ذوي الحاجات وكثير منهم يتوسطون به إلى الأمير فيصل -الملك فيما بعد-، وكان ذا منزلة عنده وكان يبلغه حوائجهم أو يذهب بأحدهم ليقابله"، ثم يذكر الجاسر عن بعض مواقف ابن بليهد النبيلة قائلاً: "وأعرف كثيراً من كبار التجار وكبار البدو وغيرهم كانوا يحتاجون إليه في أمور استعصى حلها عليهم فكان لهم خير العون، وبالإجمال فابن بليهد من جيل أوشك أن ينتهي، إن لم يكن انتهى، من حيث كرمه وسخاء نفسه ومحبته لفعل الخير، وهذا جانب في حياته جدير بالدراسة" -انتهى كلامه- (من كتاب المبتدأ والخبر).
وأعتقد أن حمد الجاسر كان منصفاً في تعداد سجايا وخصال المؤرخ ابن بليهد، فهذا الكلام والحديث منه ينم عن قرب عميق ومجالسة دائمة ورفقة ليست قصيرة، ولم تكن مجرد جلسات عابرة، وأذكر أن المؤرخ عبدالرحمن بن رويشد -رحمه الله- حدثني أنه زار ابن بليهد في منزله بمكة وأثنى على حسن ضيافته.
شعر شعبي
سعد بن عبدالله الجنيدل -رحمه الله- جالسته مرات في منزله، وأجريت معه لقاء في صيف عام 1414هـ، وجرى الحديث عن المؤرخ محمد بن بليهد، وأشاد ابن جنيدل بسعة علم المؤرخ ابن بليهد في الجغرافيا التاريخية وغزارة معرفته بأخبار القبائل وأشعارها، ويقول: "لولا تدوين المؤرخ ابن بليهد لأخبار هذه القبائل في كتابه (صحيح الأخبار) لضاعت وماتت بموت أصحابها أو بمن رواها للمؤرخ ابن بليهد، وأنه أول من شق الطريق ومهده في تحقيق المواضع الجغرافية في نجد والجزيرة العربية"، وأضاف الجنيدل أنه "من المشاريع التي كانت تحت إشراف الرواية والمؤرخ ابن بليهد هي جمع الشعر الشعبي بتكليف من وزير المالية آنذاك عبدالله السليمان، وأعد الكتاب الأديب خالد الفرج وجمع المؤرخ محمد بن بليهد الرواة لتدوين ما حفظوه من مروياتهم عن شعر حميدان الشويعر والقاضي وبن لعبون وغيرهم"، ويضيف ابن جنيدل أن "هذا الجمع أفضل جمع وأدقه ضبطاً وصحة، فكان هذا الكتاب الذي نشر بعنوان ديوان النبط لخالد الفرج وهذا معنى حديث ابن جنيدل عن المؤرخ ابن بليهد، وليس لفظه بالنص، وهذا العمل من المؤرخ ابن بليهد يعد من ريادته في جمع الشعر الشعبي لأول مرة، وطبع ديوان النبط في جزأين بتاريخ 1371هـ، ووعد بجزء ثالث لكن لم يصدر".
بمثابة دافع
وفي كتاب (شخصيات من الذاكرة) للأديب عبدالله بن سالم الحميد، أجرى الحميد لقاء مع الشيخ سعد الجنيدل، وكان محور اللقاء عن المؤرخ محمد بن بليهد بحكم صداقته معه، يقول: "الحديث عن الأديب محمد بن عبدالله بن بليهد حديث طويل له جوانب متشعبة سواء تحدثنا عن الجانب الأدبي أو عن الجانب العلمي، والجانب الأدبي الشعر وما يتعلق به من نقد وغيره، أو عن الجانب العلمي الذي هو علم التاريخ والجغرافيا وعلم الأنساب وعن أخبار القبائل، فهذه كلها من المعلومات التي كان ابن بليهد عالماً فيها ومهتماً بها، وكان من ثمره علمه تأليف كتابه (صحيح الأخبار) هذا الكتاب الذي جمع بين مادة الجغرافيا التاريخية"، وعلى صعيد آخر يذكر الجنيدل تأليف (صحيح الأخبار) للمؤرخ ابن بليهد والظروف التي سبقته قائلاً: "محمد بن بليهد -رحمه الله- قبل أن يبدأ في كتابه (صحيح الأخبار) عمل تجارب شخصية على تأليف الكتاب والإقدام عليه في وقت يصعب أن يقدم عليه غيره، ذلك لصعوبة وقلة المراجع التي تفيد بهذا الغرض، ولصعوبة المواصلات ولسعة جزيرة العرب وكثرة المسميات فيها، فهو رحمه الله ألف كتاباً صغيراً عن عكاظ لقي هذا الكتاب قبولاً عن الباحثين والقراء، فشجعه ذلك، ثم كتب مذكرة موجزة عن المعلقات العشرة وحدها ونشر فيها ما نشر في الكتب وقُرأت ولقت كذلك ترحيباً وتشجيعاً من القراءة والباحثين، كانت هذه التجارب بمثابة دافع له ليقدم على مثل هذا العمل الجليل الواسع الذي كان له فضل السبق في العصر الحديث في البدء فيها فبدأ فيه".
وينقل الحميد حديثاً لخالد الفرج عن المؤرخ محمد بن بليهد قائلاً: "لم يكتب عن جزيرة العرب أحد من أبنائها إلاّ الهمداني صاحب كتاب (صفة جزيرة العرب)، وقد انقضت على وفاته ألف عام، كتب فيها الكثيرون عن جزيرة العرب ومواضعها ومياهها وجبالها، لكن هذا الكثير لا يشفي غلة ولا يهدي الباحث إلى سبيل قويم؛ لأن مؤلفي تلك الكتب ليسوا من أبناء الجزيرة العربية ولا يعرفون عنها إلاّ تلك الروايات المعتادة المتناقضة، والآن أمامي سفر نفيس ناطق بالجهود العظيمة والتنقيب التي بذلها مؤلف عاش في قلب جزيرة العرب فخبرها خبرة الدليل، ووعى أخبارها وعي المنقب الذي يسمع القليل فيمحصه ويثبته بعد أن يقتله درساً وفحصاً، وهذا الكتاب هو (صحيح الأخبار) كما في بلاد العرب من الآثار" -انتهى-.
من رجال عبدالعزيز
وشارك المؤرخ والأديب محمد بن بليهد -رحمه الله- مع الملك المؤسس عبدالعزيز -رحمه الله- فترة التوحيد والتأسيس لهذه المملكة، وذلك واضح في كتابه (ابتسامات الأيام في انتصارات الإمام)، والإمام هو الملك عبدالعزيز، حيث دوّن ابن بليهد انتصارات المؤسس شعراً فصيحاً، وليته كتب صفتها نثراً بصيغة الخبر كما فعل في أخبار القبائل التي نثرها في كتابه (صحيح الأخبار) والمذكرات التي كتبها في آخر الجزء الخامس، فهو شاهد عيان لهذه الأحداث.
وتولى ابن بليهد مالية الطائف، حيث ولاّه الملك عبدالعزيز هذه الوظيفة واستمر فيها عدة سنوات، فكانت أول وآخر وظيفة له ثم تفرغ لبحوثه وأعماله التجارية.
صحيح الأخبار
ومن مؤلفات محمد بن بليهد -رحمه الله- كتاب (صحيح الأخبار)، وكما تحدثنا عنه طبع في حياة المؤلف سنة 1371هـ - 1951م في خمسة أجزاء في مطبعة السنة المحمدية بمصر، وأشرف على الطبع وتفضل بمراجعته وضبطه وكتابة بعض هوامشه وصنع فهارسه العلامة محمد بن محيي الدين عبدالحميد -رحمه الله-، وطبع بعدها طبعة ثانية سنة 1392هـ، وطبعة ثالثة عامة 1399هـ، وقدم للطبعة الثانية ابنه عبدالله بن محمد بن بليهد، ثم طبع عام 1414هـ ولكن حذفت منه المذكرات التي في آخر الجزء الخامس، كذلك من مؤلفاته (ابتسامات الأيام في انتصار الإمام) ديوان شعر فصيح، كذلك (تحقيق كتاب صفة جزيرة العرب للهمداني)، وكتاب (ما تقارب سماعه وتباينت أمكنته وبقاعه) طبع بعد وفاة المؤلف بتحقيق الدكتور محمد بن سعد بن حسين.
والمؤرخ ابن بليهد بذل جهوداً كثيرة في الجغرافية التاريخية، وكان كتابه (صحيح الأخبار) درة من درر العلم، غفر الله له ورحمه وأسكنه الفردوس الأعلى، وفي سنواته الأخيرة أصيب بأمراض عدة، بعدها سافر إلى العلاج إلى لبنان وتوفي هناك، ودفن فيها 1377هـ، وقد رثاه الشاعر أحمد الغزاوي بقصيدة وهذه بعض أبياتها:
لك العتبى وللذكرى الأريج
وما يغني العُويل ولا الضجيج
فقدنا فيك شهماً عبقرياً
له الأدب المُهذب والنضيج
سجلاً كنت لا يطوي وسِفراً
به الأزهار تعبق والمروج
أرقت فؤادك الفاني بياناً
هو السلسال والروض البهيج
التعليقات