فن الأوبريت من أعقد الفنون المسرحية وأصعبها على الإطلاق، بالرغم من بساطته في صورته النهائية؛ إلا أنه يحتاج إلى فهم وعلم وتقنية وصنعة، لكي يُحدث ما يسمى بالتسرب الانفعالي.. ولم ينجح في هذا الفن غير فنانين مسرحيين معدودين في الوطن العربي على مدار تاريخ المسرح العربي..
ما فن الأوبريت؟ ما هو وما يجب أن يكون عليه؟ في حين أننا لم نكن نتخيل أنه في يوم من الأيام أن يطلق على حفلة أو احتفال لمجموعة فنانين ومطربين اسم اوبريت في زمن أضحى له من الثورة المعرفية ما له من فن راق كقالب مهم من القوالب المسرحية. فعندما يقول المؤرخ الموسيقي عبدالحميد توفيق زكي -رحمه الله- والذي تتلمذنا على يديه رحمه الله في كتابه التذوق الموسيقي: "الموسيقى علم كأي علم آخر من العلوم الإنسانية، التي ندرسها في أي نوع من التعليم، فهو علم له قواعده ونظرياته وتطبيقاته. وهذا العلم تتفرع منه علوم موسيقية تهم من يود أن يدرس الموسيقى هواية أو احترافاً أو تذوقاً، فهناك قواعد أساسية للتأليف وللتوزيع الآلي وللتوزيع الصوتي وما يسبق ذلك من علوم الهارموني (الموسيقى التوفيقية)، وعلم الموسيقى المقارن وأدب الموسيقى والتاريخ التحليلي للمصنفات الموسيقية. وما إلى ذلك الموسيقى فن كأي من الفنون الجميلة سمعية وبصرية، وإذا كانت الفرشاة هي أداة المصور (الرسام)، فأداة الموسيقى هي الآلة الموسيقية أو الحنجرة البشرية. والهدف هو تعريف المتذوق للموسيقى الآلات الموسيقية وعناصر الموسيقى، والنسيج الموسيقي والبناء الموسيقي، والتأليف الآلي العالي، (السيمفونية، السوناتا، الأوبرا، والأوبريت وغيرها..). ثم اطلاعه على أنواع الآلات الموسيقية العربية، والفرق الموسيقية وتطور التخت العربي والرباعي الشرق، والمؤلفات الآلية في الموسيقى العربية" ومن هنا يتم إيراد الأوبريت كفن غنائي إلا أنه نوع من المسرحيات الغنائية وبذلك يصبح الأوبريت قالباً من القوالب المسرحية لكنه يختلف اختلافاً بسيطاً بأنه يحتوي على حوار كلامي بدلاً من الحوار الغنائي، وعلى أغانٍ بدلاً من الألحان وغالباً ما تكون مقدمة الأوبريت خليطاً من أغانٍ منتزعة من العرض وليست شيئاً مؤلفاً مستقلاً كما الحال في الأوبرا.
لكننا نجد أن كثيراً من أبناء جلدتنا يطلقون اسم أوبريت على أي احتفالية غنائية، ظناً منهم أن اختلاط الغناء بالاستعراض والإبهار مع عدد من النجوم أنه فن الأوبريت! وتلك مشكلة كبيرة في عدم مفهوم المصطلح وتوظيفه؛ فلا يعقل أن يطلق مسمى أوبريت على مناسبة يطلق فيها النجوم حناجرهم مع بعض تقنيات على خشبة المسرح، وهذا أمر لا يُنقِص من قدرهم شيئاً. أما وأن نرى أن فن الأوبريت يتوارى ولا يأخذ قدره من المعايير الفنية ويختلط المفهوم! فهذا أمر سوف يفرغ فيه النقاد -في البلاد الأخرى- محصول أحبارهم، فالتاريخ الفني لا يرحم، ولا يدع كبيرة أو صغيرة في فنون الشعوب إلا ويسجلها، ثم تعج به كليات الفنون وقاعات تدريبها، فعلوم الفنون الآن تقتات على ما دوَّنه مؤرخو الفن في العالم عبر آلاف العصور، مع رصد وتحليل لكل فن في كل شعب من خلال زمنه وتاريخه!
فما هو إذا فن الأوبريت؟
"الأوبريت هو مسرحية غنائية قصيرة، وهي مسرحية موسيقية خفيفة تشتمل عادة على حبكة عاطفية نهايتها دائماً سعيدة؛ كما تحتوي على مواقف من الحوار الملفوظ والرقص التعبيري أو الاستعراضي. وهناك أوبريتات عالمية دوَّنها تاريخ الفن، الذي لا يدع صغيرة أو كبيرة إلا ويذكرها إما بالاستهجان أو وضعها في لوحة الشرف العالمي مثل أوبريتات ألفها الموسيقار النمساوي والعالمي يوهان شتراوس عام (1825- 1899) وتلك التي ألفها فرانس رينهارت المجري عام (1870- 1948) وله أيضاً أوبريت الأرملة الطروب عام (1905) والتي عربها الشاعر المصري عبدالرحمن الخميسي من سنوات مضت".
إذا الأوبريت هو فن مسرحي بكل أركانه من حيث المكان والشخصيات والزمان والحدث، ثم إنه لا يمكن أن يتخلى عن أحد أركان الفن المسرحي وهو الحبكة، بكل ما لها من فعل درامي متصاعد ونقاط لدفع الأحداث وشبكة علاقات بين الشخصيات تعمل على تنامي الصراع من خلال تعارض الرغبات؛ وبالتالي يجتمع فن الأوبريت مع المسرحية في كل ما لها من أركان أساسية إلا أنه يتفرد لذاته بمرور كل هذه الأحداث من خلال موسيقى غنائية ويمكن أن تكون استعراضية مع مقاطع حوارية في الوقت ذاته، ثم يختلف الأوبريت عن الأوبرا بأن فن الأوبرا هو كل ما كان للمسرحية من أركان وأسس يمر في طابع غنائي من أوله حتى آخره؛ فتعرف اصطلاحياً بأنها "هي المسرحية التي يقوم فيها الغناء بدور الحوار الملحن؛ وغالباً ما يكون موضوعها مأساة، مثل أوبرا كارمن" وأوبرا عايدة. وعادة ما يكون الحدث فيها كبيراً ومأساتها جليلة. وفي هذه الحالة يتفرد الأوبريت عن الأولى والأخيرة بأن يمر بمواقف حوارية ملفوظة وأخرى غنائية وفعلها الدرامي يأتي قصيرا.
ونحن في بلادنا والحمد لله لدينا زخم واضح من الرقصات الشعبية مثل الزامل والعرضة والزحفة في بلاد قحطان والشامية وغير ذلك من الفنون الشعبية التي يمكن توظيفها في فن أوبريت ناجح وخاص له مذاق ورائحة تخصنا نحن؛ إلا أنه لا يمكن أن تكون أوبريتات بمجرد مصاحبة غناء بعض النجوم المشهورين لبعض الرقصات، ما لم تمتزج بتلك الحبكة المسرحية ذات البناء الدرامي؛ وهو ما يجب أن يكون عليه فن الأوبريت؛ فحين أنتجت دول كبيرة أوبريتات عالمية مزجتها بفنونهم الخاصة بهم، مثل رقصات "البولكا" ورقصة "التشارداش" المجرية والرقصة البولندية "مازوكا" وغيرها من الرقصات الشعبية ذات الطابع الخاص ذات القابلية المحببة لدى الجماهير؛ لأن الرقصات الشعبية كانت الأكثر انتشاراً وجاذبية في فن الأوبريت من حيث أنها تضفي عليه لوناً خاصاً بذاته؛ ففي علوم التلقي دائماً الموروث الشعبي هو ما يذهب إلى الوجدان مباشرة عن طريق "التسرب الانفعالي والانزلاق الوجداني" مما ينتج عنه ما يسمى "المتعة" لأنها تجتاز منطقة الكَدَر إلى محيط اللذة.
إن فن الأوبريت من أعقد الفنون المسرحية وأصعبها على الإطلاق، بالرغم من بساطته في صورته النهائية؛ إلا أنه يحتاج إلى فهم وعلم وتقنية وصنعة، لكي يُحدث ما يسمى بالتسرب الانفعالي. ولم ينجح في هذا الفن غير فنانين مسرحيين معدودين في الوطن العربي على مدار تاريخ المسرح العربي، ولعل من أبرز هؤلاء الشاعر الكبير بيرم التونسي صاحب أوبريت "شهرزاد" من ألحان فنان الشعب سيد درويش؛ وأوبريت "العشرة الطيبة" التي كتبها الكاتب المسرحي محمد تيمور وكتب أشعارها الشاعر الكبير بيرم التونسي ولحنها سيد درويش، وكذلك الشاعر الكبير صلاح جاهين، مؤلف أوبريت الليلة الكبيرة من إخراج الفنان الراحل صلاح السقا وألحان الشيخ سيد مكاوي. وعليه فإن فن الأوبريت يحتاج إلى كاتب مسرحي درامي متمكن، لأنه بطبيعة الحال -أي فن الأوبريت- فن مسرحي في نهاية المطاف.
التعليقات