لا شك أن الطفرة المذهلة في التقنية وفي مجال الاتصال تحديدا وضعت الكرة في مرمى الأفراد، بمعنى أن المسؤولية الأخلاقية والأدبية باتت في يد الشخص، من هنا فإن تكريس وترسيخ الأطر المثالية هي التي يعول عليها وفرس رهان المرحلة، لاسيما أن الرقابة لم تعد مجدية عطفا على هامش حرية الفرد صغيرا كان أم كبيرا، إذ لا تلبث هذه الأجهزة المختلفة أن تفصلهم عن الواقع ليحلقوا بطائرات التقنية النفاثات للعقد والتي تعمل وفق الاستخدام على تشتت العقول واضطراب الأفكار في أغلب الأحيان، هذا المنوال وبهذه الصيغة وضع لم نتعود عليه ولم نتهيأ له ففرضت التقنية الحديثه علينا نفسها وباتت في الملعب، إذ أن الاحتواء والحالة تلك يبيت عصي المنال، وبالتالي فإننا نحاول جاهدين اللحاق بالركب ومواكبة تفكير أبنائنا وبناتنا ولكن بسرعة السلحفاة طبقا لحرفية الشباب والفتيات في التعامل مع هذه الأجهزة الذكية والهيمنة على آفاقهم الأخلاقية والمعرفية بما تحتويه، فهو سباق إن جاز التشبيه بين تطويع وترويض هذه الأجهزة الجامحة وبين الاتجاه نحو طريق التوازن المعبد والذي لا يألو الكبار جهدا في تعبيده والاهتمام به ليكون الطريق سهلا ميسرا لما يحب ربنا ويرضى، البون يتسع بين الأجيال والمسافة تطول ونقاط الالتقاء باتت مسرحًا للتنافس في الاستحواذ المعنوي إن جاز التعبير، ولا ريب أن هناك صعوبة في التناغم والانسجام والمفاهيم واختلاف أساليب الحياة وطرق العيش، فهناك فرق بين من ولد فوق طعس أو تحت نخلة سكري وبين من ولد وهو متوسد جهاز سوني، بل إن الجيل الجديد تجده يرضع الحليب وهو متأبط جهاز أيباد وآمل ألا يولد مع المولود تطبيق أبل في المرة القادمة، وأذكر أن أول جوال اشتريته كان بحجم رأس طفل، التطور السريع المبهر للتقنية أشبه بنوع من السمك يقال له القرموط وهو الذي لا تستطيع الإمساك به لفرط الحركة والسرعة، الذكاء الاصطناعي الضيف القادم «يبي يلعب بحسبتنا» إذا لم نحسن التعامل مع استخدامه من خلال تمرير البعد الأخلاقي ميراث الأمة الذي لا ينضب، كتاب الله وسنة رسوله وفي خط متواز بما يكفل الاعتدال وتمرير القوة الروحية للإيمان في الأجواف الغضة. فلم يعد لدينا من الأدوات سوى الإصرار والمثابرة فاستيعاب المستجدات والتعاطي معها يتطلب الأريحية وسعة الصدر لتفعيل قدرة التأثير وتمرير الحوارات البناءه من واقع الثقة بطموحاتهم والتشجيع والإشادة بمهاراتهم، وهم أهل لذلك فنعم الإرث الذي ورثناه وسنورثه بإذن المولى عز وجل، وتأسيا باستقامة السلوك النبيل الذي كان عليه أباؤنا وأجدادنا، الصدق مع الذات محور ارتكاز التوجيه لتنطلق وثابة تثري الأركان الفسيحة بمكنونات تفصح عن صدق في العزم وإخلاص في القول والعمل، وفي تكيف بديع مع ما تعلموه واكتسبوه في المدرسة في المنزل في البيئة المحيطة، منطلقين من قوة إيمانه بربهم وتشبثهم بمبادئهم وهم يحققون الإنجاز تلو الإنجاز ليفرضوا احترامهم وشخصيتهم واعتبارهم على ما يقذفه الفضاء بين الحين والآخر، إذ يجب أن لا نكل ولا تفتر العزائم إزاء تبني لفت انتباه الشباب والفتيات والتذكير بالأمانة العظيمة التي يحملونها وأن يكونوا أهلا لها لبلوغ القمة في طمأنينة وسكينة في الدنيا، وكسب للأجر في الآخرة وهم يجسدون أوامر خالقهم، هذا الإرث النفيس الذي سنحافظ عليه وسيكملون المسيرة بإذنه تعالى بكل عزم وثبات في طاعة يعضدها اليقين المطلق، وهم يرون النور أمام أعينهم فلو اجتمعت ستائر الكون، فلن تستطيع أن تحجب هذ النور، على حين أن محاسبة النفس بشكل مستمر يحفز على الاستقرار النفسي وتوحي بالاعتراف بقيمة المعاني الجميلة للإنسان الذي يخطئ ويصيب ليسمو في علو لا مثيل له بأن ثمة أخطاء يجب تصحيحها، وثمة تقصير يجب تداركه، فمن غير اليسير أن تجد مجتمعاً مثاليا مئة بالمئة، ولكن توافر الحد المطلوب من هذه الصفة تفرضه حتمية الالتزام بالمبادئ والمثل العليا، والانصياع طوعاً وقناعة لا خوفا ورهبة، بمعنى أن يستشعر المرء الجمال الكامن بهذا الحس النبيل والقيمة القيّمة، فكلما برزت هذه الفضائل، فإنها حتما تعود على المجتمع بالخير الكثير، ولن تجف ينابيع الحكمة بإذن المولى طالما أن هناك من يرويها ويعتني بها للحد من هيمنة وهج الحضارة البراق، فلم تكن المثالية إلا تميزاً فريداً مقترنا بالخير وهي تنضوي تحت لواء ثقافة التسامح العملاقة لتعيد للاعتبار مكانته وللشخصية ألقها، وفي إطار منظومة متكاملة تنم عن حسن الخلق، لتحلق في علو نحو آفاق السداد والاستقامة، وتنشد ما عند المولى عز وجل في يقين ثابت لا تشوبه شائبة بأن الأعمال الصالحة هي الفلاح في الدنيا والآخرة.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
التعليقات