افتتحت وزارة الأمن الإسرائيلية، أول أمس، موقعا إلكترونيا يشمل آلاف الوثائق حول حرب أكتوبر العام 1973. كما يتضمن الموقع الشهادات ومواد لم تكشف من قبل أمام "لجنة أغرانات" التي حققت في إخفاقات الأذرع الأمنية، وخاصة الاستخباراتية، عشية نشوب الحرب، وفي إخفاقات عسكرية أثناءها.
وبين الوثائق التي تم الكشف عنها، تلك التي عممتها شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية ("أمان")، عند الساعة 12:30 من السادس من أكتوبر 1973، أي قبل ساعة ونصف الساعة من نشوب الحرب، وهي عبارة عن مقتطفات من معلومات استخباراتية، جرى تعريفها بالرقم التسلسلي 433.
وجاءت مقتطفات المعلومات الاستخباراتية هذه مربكة. فمن جهة أشارت إلى رصد "توجه لبدء حرب في الأمد الفوري" في مصر وسورية. ومن الجهة الأخرى، جرى التقدير فيها أنه لم يتخذ القرار ببدء حرب وأن المصريين والسوريين "يعون عدم الاحتمال بالنجاح في الحرب".
وجاءت هذه الصياغات المتناقضة بالرغم من أنه قبل عدة ساعات من تعميمها، تلقت "أمان" إنذارات محددة بشأن نشوب الحرب. ويذكر أنه خلال ذلك، التقى رئيس الموساد، تسفي زامير، في لندن، مع أشرف مروان (صهر الرئيس المصري جمال عبدالناصر، ومستشار خلفه أنور السادات)، الذي أبلغه بالموعد الدقيق لبدء الحرب. ويصف البعض مروان بأنه كان جاسوسا لإسرائيل بينما يرى آخرون بأنه كان عميلا مزدوجا، وأنه ضلل إسرائيل، بحسب رئيس "أمان" حينها، إيلي زاعيرا.
ويشمل الموقع الإلكتروني لوزارة الأمن، الذي افتتح قبل نحو أربعة أشهر من الذكرى السنوية الخمسين لتلك الحرب، 15 ألف صورة، 6000 وثيقة، 215 فيلما، 40 تسجيلا و170 خريطة. وقال الباحث في هذه الحرب، بروفيسور أوري بار – يوسف، إن "أرشيف الجيش الإسرائيلي حرر بشكل منظم معظم ما بحوزته. وهذا يسمح بإجراء بحث أفضل عن الحرب".
وقسم من الوثاق تُكشف للمرة الأولى. وبضمنها بحث، من العام 1985، الذي أجراه الضابط برتبة عميد، يوئيل بن بورات، الذي كان يتولى خلال الحرب قيادة الوحدة 8200 التابعة لـ"أمان". ووجه بن بورات انتقادات شديدة إلى مقتطفات المعلومات الاستخباراتية، "حيث اطلعت على عدد كبير من الأمور الغريبة حول طريقة التحليل واستخلاص العبر. وفصل ’الخاتمة والتقديرات’ في هذه المقتطفات من أكثر الأمور المستغربة، من حيث التفكير الاستخباراتي وكذلك طريقة التعبير عنها".
وأضاف بن بورات "التشكيك بوجود قرار (مصري وسوري ببدء الحرب) في ذلك الوقت، على خلفية المعلومات والأحداث، هو أمر قريب من التناقض".
ووجه بن بورات انتقادات القرار بعدم نقل المعلومات حول الحرب إلى رئيسة الحكومة، غولدا مئير، ووزير الأمن، موشيه ديان، ورئيس أركان الجيش، دافيد بن إلعزار.
وكتب أنه "لا أعلم من الذي أو الذين صادقوا على قرار إقصاء قادة إسرائيل ومديري مكاتبهم عن المعلومات" التي كانت متوفرة قبل 36 ساعة من نشوب الحرب. وأضاف منتقدا رئيسي الموساد و"أمان" أن "الذي منع نقل المعلومات ارتكب مخالفة خطيرة بمنع معطيات عن القائد من أجل دراسة الاعتبارات واتخاذ القرارات كما هو مستوجب، تماما مثل الذي يمنع إطلاق نيران مدفعية أثناء القتال و بالوتيرة الاتجاه الصحيح".
كذلك يشمل الموقع بروتوكولات مداولات واجتماعات عقدتها رئيسة الحكومة مائير وديان وإلعزار، وتحقيقات عسكرية أجراها ديان وهيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي وقادة الجبهات الإسرائيلية، إلى جانب تقارير، بخط اليد، حول مجرى الحرب.
ويرى الكاتب والخبير في الشؤون الإسرائيلية أنطوان شلحت أنه مع اقتراب كل ذكرى لحرب أكتوبر (أو تشرين) 1973 يتكرّر الانطباع بأنها، بالنسبة لكثرٍ من الإسرائيليين، بمثابة "حربٍ غير منتهية"، بما يُحيل دلاليًا إلى أنها ما زالت مفتوحة على التأويل.
ويضيف شلحت أنه في غمرة جائحة كورونا، صادف عدة مرات أن طُرح تساؤل عما إذا كان ثمّة وجه للمقارنة بين أزمة الجائحة وحرب 1973؟ وهناك من يعتقد أن المقارنة تصحّ من عدّة وجوه، ليس أبسطها أن الجائحة داهمت الدولة، كما العالم، على حين غرّة، مثلما كانت الحال، إلى حدّ ما، بالنسبة إلى الحرب المذكورة، من حيث كونها، من ناحية، لم تكن متوقعةً استخباراتيًا، كما يزعم بعضهم خلافًا لبعض آخر يدّعي العكس. ومن ناحية أخرى، من زاوية وقائع خوضها، ناهيك بالاستعداد لها، والتي كادت أن تفضي إلى إلحاق هزيمة بإسرائيل تمحو أثر هزيمةٍ ألحقتها بدول عربية قبل ذلك بستة أعوام في حربٍ خاطفة دامت ستة أيام، وعندما استراحت في اليوم السابع ألفت نفسها رابضةً على مزيد من أراضي فلسطين التاريخية، وكذلك على أراضٍ مصرية وسورية.
وإذ نقول إن المفاجأة ليست أبسط ما انطوت عليه الجائحة لدى مقارنتها بحرب 1973، مع ضرورة الإشارة إلى أن هناك من نفى ذلك جملة وتفصيلًا، فإننا نقصد بالأساس أن هناك ما هو أبعد دلالةً منها، بما قد يرسم ما يشبه البورتريه للواقع القائم في إسرائيل حاليًا، فالذين يعتقدون أن إسرائيل كسبت الحرب، في نهاية المطاف، يؤكّدون، في الوقت عينه، أنها أصيبت بخسائر جسيمة، بينما تسبّب الفشل الاستخباراتي المريع بصدمةٍ هائلة للجمهور العريض. ومثلما كتب بعض هؤلاء، فإنه على غرار بريطانيا بعد الحرب العالمية الأولى، قد تكون إسرائيل خرجت من الحرب منتصرة، لكنها خسرت إحساسها بالمنعة، وتآكل يقينها بأن "جيشها لا يقهر"!
وأشار شلحت، الآن على أعتاب ذكرى تلك الحرب، فإن أول ما نطالعه من تأويل يتمثل في تكرار استنتاجٍ مؤدّاه أن تجهيز الجيش الإسرائيلي لأي حربٍ قد يخوضها يجب أن يتم "على أساس القوة التي يمتلكها العدو الذي سيحاربه"، لا "بناء على تقديرات إسرائيل نياته". وهذا درسٌ قاله جميع الذين أخذوا على إسرائيل، بمؤسستيها السياسية والعسكرية، استغراقها حتى الثمالة في مشاعر النشوة التي انتابتها بعد الانتصار الذي حققته في حرب يونيو 1967. وهي مشاعر تسبّبت إثر الحرب المذكورة بشيوع تقديراتٍ لدى المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، تتعلق بقوة مصر وجيشها، مبنية على النيات والرغبات أكثر مما على قوتهما الحقيقية، وفي مقدمها التقدير بأن مصر لم تعد قادرةً على شن حربٍ ضد إسرائيل. ولقد شهد أحد الضباط الإسرائيليين من الذين اشتركوا في حرب 1973 أنه سمع بنفسه رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية في الجيش في ذلك الوقت، يقول أمام دورة ضباط من فرقة المظليين إن "مصر باتت دولة يُرثى لها"!
وأكد الخبير في الشؤون الإسرائيلية أنه يلي هذا التأويل مباشرة تأويل يستند إلى وقائع عملية "سيف القدس" في مايو الفائت، ويشير إلى أن اعتماد إسرائيل على "تحقيق انتصار" بواسطة سلاح الجو فقط هو بمنزلة خطأ استراتيجي فادح، حسبما لا ينفكّ يؤكد اللواء احتياط، يتسحاق بريك، الذي شغل سابقًا منصب قائد الكليات العسكرية، والمسؤول عن معالجة شكاوى الجنود في الجيش الإسرائيلي. برأي بريك، طوال سنواتٍ كانت قوة سلاح الجو بارزة في مواجهة طائرات العدو وتفوّقه عليه واضح، لكن قدراته تعطّلت في الستينيات في مواجهة القذائف والصواريخ. وفي السنوات الأخيرة، أُهمِل سلاح البر وتدهور، وهو الآن على وشك الانهيار. وفي عملية "سيف القدس"، أثبتت حركة حماس، كما يؤكد، قدرة كبيرة على الصمود، وواصلت إطلاق القذائف، حتى تحت هجمات غير مسبوقة لسلاح الجو، لم تؤدِ إلى ردعها، وتمكنت من شلّ الحياة في معظم أنحاء الدولة طوال المعركة، وتسبّبت بأضرار اقتصادية تُقدّر بمليارات الدولارات، جرّاء توقف جزء كبير من الاقتصاد المُنتج، بالإضافة إلى التكلفة الباهظة لآلاف القنابل الدقيقة التي أسقطت على أهداف في غزة.
التعليقات