سفر جميل ورشيق في ثنايا رحاب الحرف الذي لا يخفت بريقه، يأتي بوجهه المشرق ليسعد القلوب بالجمال، فهناك العديد من الكُتُب ترى وأنت تغرق في بحر قراءتها ما بين المدِّ والجزر أن عنوان الكتاب كان معبراً تماماً عن مضمونه، يشعل جذوة الفكر، مبلوراً ما احتوت صفحاته وهذا الوصف ينطبق على كتاب: مُخْتَصَر تاريخ البلاد التونسية.. الإنسان والأرض «من عصور ما قبل التاريخ حتى الاستقلال»، للدكتور عبدالعزيز بن حمد الحسن أستاذ الإعلام المتعاون مع جامعة الملك سعود وجامعة الإمام بالرياض.
فكرة الكتاب
لكل كتاب قصة، تبدأ من فكرة في مخيلة المؤلف حتى تنتهي، وعن فكرة الإصدار يقول المؤلف الحسن: «كتابة التاريخ ممتعة ومفيدة وصعبة مرهقة في ذات الوقت.. ممتعة: لأن الكاتب «المؤلف» يشعر أنه يعيش في عالم ساحر من الواقع الذي يشبه الخيال، فهو حين يمارس توثيق أحداث مهمة كان لها آثار واضحة في سير الأمور لحياة مجتمع أو شعب أو أمة أو دولة، إنما هو كالذي يمارس الإبحار منفرداً في محيط متلاطم الأمواج ليس له حدود، وفي كل لحظة يجد كنوزاً غارقة لم يصلها إلا الغطاسون المحترفون، أو على لؤلؤ ثمين أو كائنات بحرية لم يقترب منها ويلمسها من قبل، أو هو كالذي يسبح في الفضاء الواسع الكبير فيقترب من الأقمار والنجوم التي تدور في الأفلاك البعيدة. وكاتب التاريخ في الوقت ذاته يستمتع بإحساسه أن القارئ لكتابه سوف يعيش معه أجواء تجربته ويشاركه متعة رحلته اللذيذة المبهرة.
ومفيدة؛ لأن تلك الأحداث مهما كانت بعيدة غائرة في أعماق الماضي السحيق، أو كانت قريبة لا تزال صورها وأصواتها حية متحركة على مسرح الواقع الراهن، فإنها جميعها تحمل دروساً وعِبَراً لمن يريد أن يفهم كيفية حركة الحياة الإنسانية المليئة بالصراعات والمغامرات والنجاح والفشل، وشروق الأمم والحضارات وأفولها وقوتها وضعفها، وقيام الدول وانهيارها، وسطوع نجوم الأشخاص وغيابها، واستلام عائلات وجماعات للملك والجاه وانتزاعه منهم.
وصعبة؛ لأن كتابة التاريخ ليست عملاً أدبياً يبدعه الكاتب من خياله وحسب تصوراته الفكرية الخاصة، وإنما هي عملية بحث علمي متعمِّق لنقل روايات مُعْتَبَرة كما رُوِيَت وكل ذلك يستلزم الصبر والمثابرة، والقراءة المتأنية، والتدقيق والمقارنة، ثم الصياغة بأسلوب مختصر مفيد وممتع يوصِّل المعلومة مباشرة إلى فهم القارئ، (استغرق إعداد هذا الكتاب أكثر من ثلاث سنوات).
ونقل التاريخ من مصادره المُعْتَبَرة لا يعني أن يكون ذلك المنقول صحيحاً كاملاً وخالياً من النقص والخطأ، ذلك أن نقل التاريخ برواية أحداثه المتواترة، بعد عرضها على الفهم والإدراك الواعي في سياقاتها المعقولة هو المعيار السليم الذي يوضح سلامة المنقول، وواجب الباحث في أحداث التاريخ أن ينظر إلى ما يقدمه للقراء على أنه وثائق يقوم بإعادة ترتيبها بأسلوبه الخاص وحسب فهمه لمجريات أحداث الأزمان الماضية، ومهما حاول الكاتب أن يكون محايداً فإنه كإنسان لا يستطيع أن يضمن تجرُّد مَن ينقل عنهم من المؤثّرات الاجتماعية والسياسية والنفسية، ولا من ميولهم الدينية والعِرْقية، وأغراضهم الشخصية عند كتابتهم وتوثيقهم لما عاصروه من أحداث.
وقد لاحظ المؤلف أن أكثرنا في المشرق العربي لا يعرف إلا القليل عن تاریخ مغربنا، والعكس، بل إن الأجيال الجديدة قد ثبتت في أذهانهم حدود دولهم القُطْرية المستقلة، وشعوبهم المنفصلة كلٌ بذاته، حسب ما أراده المستعمرون الذين تقاسموا الوطن العربي بعد تغلب الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، ولم يغادروه إلا بعدما حولوه إلى جُزُرٍ سياسية متباعدة بل ومتناحرة في أكثر الأحيان.
والبلاد التونسية بإنسانها المتميز النبيل، وأرضها الخصبة الكريمة، كانت وما تزال وستظل مركز إشعاع فاعل في الحضارة الإنسانية بمختلف شؤونها السياسية والثقافية والاجتماعية، سواء في عالمها العربي والإسلامي، أو في قارتها الإفريقية، أو في القارة الأوروبية المجاورة بحكم موقعها الاستراتيجي وتفاعلها السياسي والاجتماعي والاقتصادي معها.
هنا شعب عريق يعيش في بقعة رائعة الجمال سخية العطاء، وتاريخ تونس؛ الإنسان والأرض تعجز عن احتوائه آلاف المجلدات، لكن المؤلف أراد تقديم إشارات مختصرة لذلك التاريخ الحافل الطويل الجليل، في شكل كتيّب يعطي القارئ لمحة واضحة مقربة تفتح شهيته للبحث عن المزيد.
وهذا الكتاب ينقل باختصار ما توفر للمؤلف من تاريخ «إفريقية»، وهو الاسم الذي يطلقه المؤرخون على ما يُعرف اليوم بالدولة التونسية التي تملأ الأسماع والأبصار بحيوية شعبها المتطلع دائماً إلى الأمام. ومنذ أن قرأت كتاب المؤرخ التونسي المعروف حسن حسني «خلاصة تاريخ تونس» تحقيق المؤرخ التونسي المعروف حمّادي الساحلي، وهو كتاب صغير الحجم كبير القيمة عزمت على إنجاز كتاب مختصر مفيد، كهدية للقراء الكرام عن وطن وشعب من أحب الشعوب والأوطان إلى قلوبنا».
التعليقات