تفيد لفظة رومانتيك romantic في اللسان الإنجليزيّ خلال العصر الوسيط معنى حكاية المغامرات في الشعر والنثر، كما تدل على المشاهد الريفية بما تجسده من الدهشة والسحر التي تقترب من الأسطورة وعوالم الخيال والمواقف الشاعرية. ولم تلبث هذه اللفظة أن تنحو منحى التخصيص فتغدو مواضعة ثانية داخل اللغة أو بالأحرى مصطلحا نقديّا دالا على تيار أدبي تجمع بين أفراده مجموعة من السمات المشتركة للحركة الأدبية التي نشأت في أوروبا بعيد الثورة الفرنسية، وجاءت ردة فعل على الاتباعية، همّها إعادة التواصل مع الأصول الثقافية وابتعاد أدباء عصر النهضة عن كل ما هو سلفي أو محلي.

ولقد أثرت الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في نهاية القرن التاسع عشر في تغيير اتجاه أوروبا نحو مصادر ثقافية جديدة، فقلبت الذوق الأدبي العام من حيث النظرة التذوقية إلى الأدب من حيث المضمون وطريقة التعبير والوسائل المستخدمة في الأداء اللغوي فبدأت تظهر مفهومات القومية والأمة والشعب والحرية والعدالة والمساواة. وتساوقت هذه المفاهيم مع مشاعر الإحباط والإحساس بالمرارة واليأس والانغلاق على الذات وزفرات الشكوى وتصعيد الألم الشخصي لدى الجيل الذي كان يؤمن بالانتصارات العظيمة، تحدوه الروح الوطنية وحبّ المغامرة والسفر خلف الأحلام البعيدة.

وقد شق مصطلح الرومنتيكيّة طريقه إلى الأدب العربي في حقبة ما بين الحربين العالميتين وارتكز في أساسه على الخروج على مبتدأ محاكاة القدماء والانكفاء على الذات الإنسانية فاتجه إلى الداخل البشري بدلاً من الظواهر الخارجية وأصبحت الذات هي محور العمل الأدبي، كما لجأ إلى اللفظ الموحي الشفاف بديلا عن جزالة الألفاظ. واشتقّ النقّاد لهذا المفهوم مصطلحا فصيحا هو الإبداعية من الإبداع الذي يعني في مضمونه تجاوز المألوف في الخلق الأدبي والبديع من أسماء الله الحسنى وصفة لازمة له. فهو بديع السموات والأرض أي خالقهما على غير مثال سابق لها، وبذلك أصبحت الإبداعية مصطلحاً رديفاً للرومنتيكيّة الأوروبية باعتبارها تجاوزا إبداعيا للموروث التقليدي الذي عُدّ محافظاً وتقليدياً.

ولقد كان للشعر حضوره الواضح في هذا الاتّجاه الإبداعي فيما كان الحضور الأوسع للمسرح في المذهب الاتباعي ذلك أن الشعر بما فيه من قدرة على إطلاق المشاعر والجنوح بالخيال استحوذ على اهتمام الشعراء الإبداعيين لأنهم وجدوا فيه ضالتهم فانساقوا فيه معبرين عن العواطف الشخصية محلقين مع شطحات الخيال في عوالم الحرية. كما تغلغلوا في عوالم الطبيعة الرحبة التي وجدوا فيها مجالاً للتنفيس عن معاناتهم في الواقع والحياة. فراحوا يبثون الطبيعة آلامهم ويشاركونها الشكوى ويلقون بأحضانها مآسيهم ممجدين قيمة الألم الذي وجدوا فيه معلماً ولسان حالهم يقول: (الإنسان معدنه الألم... والشعر من الوجع يطلع) ولأنهم يوغلون في الخيال ويمتطون صهوة المجهول فقد وجدوا في الرموز الموحية مبتغاهم وفيه لقوا الأجواء المناسبة للتعبير عما يجول في دواخل نفوسهم من هواجس غامضة يصعب التعبير عنها بشكل واضح مباشر فكان الرمز وسيلة من وسائل التعبير عن ذلك الغموض الذي كانوا يستشعرونه ولا يستطيعون التعبير عنه وبذلك يصبح الرمز وسيلة تواصل مع المتلقي الذي يشارك الشاعر الرومانسي التحليل والتفسير بخلق جو من النشاط والفعالية الفكرية في إعادة فك الرمز واستنطاق مدلوله النفسي واللغوي. ومردّ ذلك أنّه يحقّق للمتلقي لذة المشاركة في الكشف عن جمالية الرموز التي غالباً ما تكون سهلة وشفافة ومأنوسة. ولم تقتصر ثورة الإبداعية على سابقتها الاتباعية بالمضمون فحسب، بل حاول الإبداعيون التخلص من قيدي الوزن والقافية اللذين وجدوا فيهما تضييقا عليهم وانحساراً لمدى حيويتهم العاطفية في التعبير والتحليق. ولم تكن القافية والوزن ليساعدا على الولوج في آفاق حيزهم وشطحات خيالهم فكسروا تلك القوالب الجامدة وانعتقوا من ربقة القوافي وحدودها الضيقة. وقد وجدت الإبداعية غايتها لدى الأدباء العرب الذين وجدوا فيها طموحهم في البحث عن عوالم الحرية والسلام والعدالة. وبرزت إثر ذلك تيارات ومدارس نقدية من مثل جماعة أبولو والرابطة القلميّة وعصبة العشرة والديوان فاشتغلت بالجانبين الإبداعي والنقدي فأسهمت تلك التيارات بتوطيد الإبداعية التي ركزت على الذاتية والغنائية وتمجيد الألم والجنوح إلى الخيال.

د. طامي الشمراني