على مدار سنوات عديدة تبنت الولايات المتحدة استراتيجيات لسياستها الخارجية لعبت فيها القوة العسكرية دورا محوريا، ونجحت في جوانب كثيرة في تحقيق أهدافها من خلال الاستناد إلى هذا العنصر، لكنها مؤخرا وفي ظل تغير البيئة الجيوسياسية وتعقيدات الوضع الراهن قد لا تتمكن من تحقيق هذا النجاح بسهولة.

حول هذا الموضوع نشرت مجلة ناشونال انتريست الأمريكية تقريرا لاثنين من الباحثين المتخصصين هما جوش كيربل وهو عضو هيئة التدريس البحثية بجامعة الاستخبارات الوطنية وهي الذراع الأكاديمي لمكتب مدير الاستخبارات الوطنية الأمريكي، والليفتنانت كولونيل جيك سوتيرياديس، وهو حاصل على الدكتوراة وكان أساسا ضابط استخبارات في السلاح الجوي الأمريكي، وهو حاليا ضمن أعضاء هيئة التدريس البحثية بجامعة الاستخبارات الوطنية، ومدير مركز الاستخبارات المستقبلية.

وقال كيربل وسوتيرياديس، إنه إذا كنت تنتظر قهوتك الصباحية في مقهى بالبنتاجون، فقد لا تدرك أنك محاط بما قد يكون أعلى كثافة للاستراتيجيين في العالم. وفي كل عام، وبدون فشل، يكمل الآلاف من الضباط العسكريين من المستوى المتوسط والكبار وكذلك نظرائهم المدنيين شكلا من أشكال التعليم المهني الذي يعدهم ليكونوا استراتيجيين أو يؤكد على التفكير الاستراتيجي.

ويتساءل الباحثان: لكن ما هو العائد الحقيقي لكل الأموال التي تنفقها الحكومة الأمريكية على "التعليم الاستراتيجي" بخلاف كل تلك الشهادات الفاخرة على جدران المكاتب في واشنطن العاصمة؟ ويقولان إن نظرة سريعة على العقدين الأخيرين من الاستراتيجية العالمية الأمريكية تشير إلى أن التعليم الاستراتيجي ربما أصبح ببساطة طقسا من طقوس الاجتياز بدلا من أن يكون شيئا يتم وضعه موضع التنفيذ.

ومن المؤكد أن كل طالب يحضر برنامجا تعليميا استراتيجيا هو بلا شك على دراية بالخبير الاستراتيجي العسكري البروسي كارل فون كلاوزفيتز، الذي كتب على نحو شهير أن "الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى". ولكن يبدو أن عقدين من الاستراتيجيين الأمريكيين قد نسوا (أو ما هو أسوأ من ذلك، لم يستوعبوا حقا) تحذير كلاوزفيتز بأنه يجب على السياسيين والقادة العسكريين أن "يدركوا نوع الحرب التي يخوضونها ولا يخطئون فيها ولا يحاولون تحويلها إلى شيء لا يمكن أن يكون، بسبب طبيعة الظروف". ومن المؤكد أن سجلنا الحافل يترك الكثير مما هو مرغوب فيه، وفقا للباحثين.

وأضافا أنه على مدى السنوات العشرين الماضية، أعقب "كارثة" أفغانستان والعراق التي بلغت تكلفتها 6 تريليونات دولار المزيد من تغيير النظام في ليبيا، مما أغرق ذلك البلد في حرب أهلية (وحرب لاحقة بالوكالة) لا تزال مستعرة حتى يومنا هذا. وأحبطت المحاولات الغربية للإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد بسبب الدعم الروسي، مما يضمن بقاء الأسد مسيطرا بقوة. وفشلت الاستراتيجية الأمريكية في ردع روسيا عن غزو جورجيا في عام 2008 أو أوكرانيا في عام 2014 ومرة أخرى في عام 2022. وأخيرا، فإن الإجماع المتشدد الناشئ في واشنطن على أن الصراع مع الصين مرجح بشكل متزايد، إن لم يكن حتميا، يخاطر بإضفاء الطابع الأمني المفرط على كل جانب من جوانب العلاقة بين الولايات المتحدة والصين.

ويتساءل الباحثان: كيف وصلنا إلى هنا؟ لقد كسبت الولايات المتحدة على الأقل منذ التحول الصناعي، حروبها (عندما فازت بها) من خلال الاستخدام الساحق للقوة والقوة النارية. ويقولان: لقد أنتجنا بشكل أساسي كميات مذهلة من المواد الحربية التي جلبناها مباشرة للتأثير على خصوم محددين بوضوح وتقليديين لم يتمكنوا من مضاهاتها أو الصمود أمامها. وعلى الرغم من أن هذا الأمر لم يكن جميلا بالضرورة، إلا أنه كان فعالا. وأصبح هذا النهج الخطي للغاية للحرب هو دليل اللعب الاستراتيجي الافتراضي لدينا.

ولسوء الحظ، غالبا ما يكون مثل هذا النهج الخطي غير كاف في بيئات شديدة التعقيد ومترابطة. وتعد التحديات في عالم اليوم متعددة الأبعاد ولا تمثل في كثير من الأحيان مركز ثقل عسكري يمكن تحديده بوضوح، ناهيك عن مركز يمكن ترجمة أضراره أو دماره بسهولة إلى أهداف سياسية.

ويقول الباحثان إن هذا يعالج المشكلة الأساسية، فبالنسبة للولايات المتحدة، فإن الإجابة النموذجية هي عسكرة المشاكل التي قد تستعصي على الحلول العسكرية البحتة. ويبدو أن قيادة أمننا القومي غير قادرة، حتى بعد كميات هائلة مما يسمى بـ"التعليم الاستراتيجي"، على النظر إلى تحد استراتيجي ناشئ وتسأل نفسها عن ما هي خصائصه ومتطلباته الفريدة؟ وهل لدينا بالفعل الأدوات والقدرات لتحقيق النتائج السياسية المرجوة؟ وبسبب افتقارها إلى هذه القدرة، فإنها غالبا ما تركن بشكل غير فعال في أحسن الأحوال وبشكل كارثي في أسوأ الأحوال، للاعتقاد السام بأنه إذا استخدمنا القوة الكافية، فيمكننا تحقيق أي هدف نرغب فيه.

ويضيفا أنه بدلا من التعلم من أخطائنا السابقة، فإننا نضاعف من الأساليب الاستراتيجية الفاشلة. فنفس الأصوات التي قادتنا إلى الفشل الاستراتيجي في العقدين الماضيين لا تزال تلوح في الأفق بشكل كبير في المناقشات الأمنية المعاصرة.

لذلك، هل هناك طريقة أفضل لتثقيف قادة الأمن القومي لدينا؟ إن البيئة الاستراتيجية المعقدة في نهاية المطاف، تتطلب اليوم مجموعة مختلفة اختلافا جوهريا من المهارات. ويتعين علينا أيضا أن نعترف بأن التحديات الاستراتيجية مفرطة الترابط اليوم، ليست قابلة للحل بقدر ما هي قابلة للإدارة فحسب. ويمكن أن يساعد التبصر الاستراتيجي، الذي يتضمن ممارسة تصور مستقبل بديل من أجل تحسين الشعور بالتغيير وتشكيله والتكيف معه.

وبينما ننتقل إلى بناء منصات وحلول بيانات قائمة على الذكاء الاصطناعي ، يجب علينا أيضا تطوير رأس المال الفكري بشكل متعمد. ويتطلب الارتقاء إلى مكانة عالية في الأمن القومي أكثر من مجرد "شراء الأشياء" أو تطوير أنظمة الأسلحة أو متابعة التقنيات التخريبية. ويتطلب من المتخصصين في مجال الأمن أن تكون لديهم القدرة المعرفية للاستفادة منها.

ويقول الباحثان إنه لعل الأهم من ذلك أننا بحاجة إلى نهج جديد للتعليم الاستراتيجي ينتج قادة متواضعين وغير مصابين بالجمود أو ما هو أسوأ من ذلك، غير مدفوعين إلى سلوكيات افتراضية عفا عليها الزمن بسبب عدم اليقين الذي لا مفر منه في عالم اليوم المعقد. نحن بحاجة إلى المزيد من القادة الذين يمكنهم، عند الاقتضاء، قول "لا، ربما لا يمكننا تحقيق ذلك من خلال الوسائل العسكرية، لكننا قد نكون قادرين على القيام بذلك باستخدام مجموعة الأدوات المتاحة لدينا".

ويخلص الباحثان إلى أنه "بعد عشرين عاما من الفشل، يجب على دافعي الضرائب الأمريكيين أن يعرفوا أن حكومتهم لديها خطة للاستفادة بشكل فعال من هذه المجموعة من الاستراتيجيين الذين أنفقت عليهم الكثير".