عدم الشهرة وخمول الذكر ليس دليلاً على ضعف هذه الشخصية أو تلك، فأسباب الشهرة وطيران الذكر وذيوعه لها أسباب، إمّا أن تكون متعلقة بالشخص، أو متعلقة بالظروف والزمن الذي عاشه، أو حدث حدثاً له مساس كبير بهذه الشخصية سلباً أو إيجاباً، فالشهرة ليست دائماً دليلاً قاطعاً على قوة ومكانة الإنسان، والعكس صحيح، فكم من مغمورين في التاريخ القديم والحديث عرفوا بالعلم أو بمكارم الأخلاق أو تولوا مناصب قيادية، أو كانوا ذا حظوة وبروز في أمرٍ ما والسببُ في عدم شهرتهم أنهم لا يحبون الأضواء ولا يلاحقون الشهرة، ولا يلهثون وراءها، بل يعملون بصمت وهدوء، بل إنهم منزوون عن الناس. وشخصيتنا هذا الأسبوع من هؤلاء الذين لم ينالوا قدراً كبيراً من عالم الشهرة، ألا وهو الواعظ والمُعلم المربي محمد بن عبدالرحمن بن عباد -رحمه الله-، الذي فرّغ نفسه للعِلم والتعليم والتدريس منذ فجر عمره حتى آخر ساعات حياته، فهو أحد الذين عاشوا في الظل، مع أنه رُشّح للقضاء لكنه امتنع ورفض هذا المنصب الكبير الخطير تورعاً منه، مع أن مؤهلات القضاء متوفرة فيه كالعلم الشرعي والرسوخ فيه والورع والديانة والأمانة والإخلاص وقوة الشخصية، ولعلنا في هذه السطور نجسد شخصية الشيخ ابن عباد ونتوقف عند محطات رحلته في هذه الحياة.

هو محمد بن عبدالرحمن بن محمد بن عبدالرحمن بن عباد من مواليد 1331هـ، هكذا سرد الباحث والقاضي د. محمد بن إبراهيم العباد في نبذته القيمة والمحررة عن الشيخ محمد بن عباد، والتي استفدت منها في كتابه سيرته، وقد صحّح محمد الحمدان مكان ميلاده في كتابه (البير)، حيث ذكر محمد القاضي في كتابه (روضة الناظرين) في ترجمة الشيخ ابن عباد أن ميلاده حريملاء وهذا خطأ، فميلاده بلدة الصفرات، وأكد هذا د. محمد العباد في نبذته، والشيخ البسام في ترجمته، والشيخ ابن خميس في ترجمته أيضاً.

أُسرة عِلم

كان عبدالرحمن بن عباد والد شخصيتنا محمد بن عباد قد اهتم اهتماماً بالغاً بأولاده، وكان هو نفسه من حفظة القرآن، لذلك كان أبناؤه حفظة للقرآن الكريم ويدرسون الصبية، فعبدالعزيز -شقيق محمد- كان من طلبة العلم وهو إمام وخطيب جامع الصفرات، وإبراهيم أخوه أيضاً كان إمام مسجد في حريملاء، وجد الأسرة هو الشيخ محمد بن حمد بن عباد الذي يُعد من مؤرخي نجد ومن الفقهاء، وكتب نبذة تاريخية نجدية، وهو من القضاة، حيث تولى القضاء في بلدة ثرمداء، هذه البيئة التي عاش فيها شخصيتنا بيئة مباركة تهتم بالقرآن وتدريسه، لذلك نشأ محباً للعلم وتاقت نفسه إليه وإلى تحصيله، وقد سكن حريملاء مع أخيه إبراهيم وهنا بدأت رحلة الى العلم.

أساتذة ومعلمون

وأثبت محمد القاضي في كتابه (روضة الناظرين) مشايخ الشيخ محمد بن عباد -رحمه الله- في حريملاء والمجمعة والرياض، وكذلك ترجم له عبدالله بن خميس في كتابه (تاريخ اليمامة) -المجلد الخامس- وهي مختصرة من كتاب القاضي، وترجم له الشيخ عبدالله البسام في كتابة (علماء نجد خلال ثمانية قرون) -المجلد السادس- وسرد مشايخه في الرياض فقط، وذكر أنه تعلم في حريملاء لكن لم يعين أسماءهم، ونقل لنا د. محمد العباد في نبذته أسماء مشايخه في حريملاء والمجمعة والرياض، لكن لم يذكر لنا من هم الذين تلقى عنهم العلم في مكة، ولعله لم يتوفر لديه المصدر في ذلك، فمن أوائل مشايخه عبدالرحمن بن سعد -قاضي حريملاء-، قرأ عليه في الفقه والتوحيد، وكانت المدرسة النجدية القديمة غير النظامية تهتم أولاً بالتوحيد بداية من رسائل الشيخ محمد بن عبدالوهاب ثم الفقه على مذهب الإمام أحمد، وكان زاد المستقنع هو المقرر حفظه مع شرح الروض المربع لشيخ المذهب منصور البهوتي، كذلك دراسة مبادئ اللغة العربية، وفي المثل "من حفظ الزاد قضى بين العباد"، كذلك درس الشيخ ابن عباد على العالم إبراهيم بن سليمان وهو قاضٍ حصيف قوي الشخصية، واستفاد من هذين الشيخين ونهل من علومهما ثم رحل إلى المجمعة، وكان بها الفقيه عبدالله العنقري الذي يلقب بصاحب العمدتين أي عمدة الفقه وعمدة الأحكام، وكانت حلقة الشيخ العنقري زاخرة بالتلاميذ والطلاب، فتعلم عليه بالتوحيد والفقه والفرائض والتفسير.

إلى الرياض ومكة

ورحل محمد بن عباد -رحمه الله- إلى الرياض، حيث مدرسة آل الشيخ، وكان عميد هذه المدرسة الشيخ محمد بن إبراهيم، فأخذ ابن عباد عن الشيخ محمد بن إبراهيم جملة من العلوم، طبعاً في مقدمتها التوحيد والعقيدة والفقه، وذكر د. محمد العباد في نبذته أنه ختم بعض المتون حفظاً وشرحاً على الشيخ محمد والشيخ عبداللطيف بن إبراهيم، والشيخ ابن عباد في طبقة الدراسين على الشيخ محمد بن إبراهيم مثل سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز وعبدالله بن حميد؛ لأنه قريب من أعمارهما، وكان الشيخ عبدالرحمن بن سعد قاضياً في الرياض وعاود الاتصال به وأفاد منه.

وطابت لمحمد بن عباد مجاورة مكة المكرمة، ونهل من بعض علماء المسجد الحرام، لكن لا نعرف أسماء هؤلاء العلماء الذين أخذ عنهم، يقول د. محمد العباد في نبذته: "فقرأ على علماء المسجد الحرام في الحديث وعلوم العربية وتوسع شيئاً في المذاهب، وكان نبيهاً قوي الحفظ، سريع الفهم، واسع الاطلاع في الفقه والفرائض والحديث، أكب على المطالعة حتى صار أهلاً للإفتاء والقضاء والتدريس، وكان إماماً فقيهاً حنبلياً لا يشق له غبار، ولديه فن في التدريس" -انتهى كلامه-.

معلماً في سدوس

وبلدة سدوس بلدة عريقة في القدم عمرها الزمني ما قبل الإسلام، وفيها آثار ونقوش تدل على رسوخها في القدم، وهي من مشاهير قرى اليمامة قديماً، فكان من سعادة أهالي سدوس أن تعيّن على سدوس محمد بن عباد قاضياً، لكنه رفض هذا المنصب لورعه الشديد، لكن لحبه للعلم ونشره آثر تدريس وتعليم ناشئة أهالي سدوس، فتعين إماماً وخطيباً بجامع سدوس ورحل إليه من القرى المجاورة أناس لما سمعوا به، وعقد حلقات للتدريس في مبادئ العلوم الشرعية والعربية، فكان -رحمه الله- منارة علم ومعرفة في هذه البلدة، ونهض بها نهضة علمية، ومن كتب عن سدوس والنهضة التعليمة فيها فلا بد أن يكون اسم محمد بن عباد في مقدمة هؤلاء، فابن عباد عشق العلم وأصبح يجري في دمه، ومن أحب شيئاً أبدع فيه، وزكاة العلم نشره وإذاعته، فهو الميثاق الذي أخذه الله على العلماء، وهو البيان وعدم الكتمان وتوجيه الناس وإرشادهم ونصحهم، فمن فأل أهالي سدوس أن وفد عليهم هذا الرجل الصالح الذي فتح الله عليه من العلم الشرعي النافع، الذي بعثه فيهم طيلة ما يقارب عقد من الزمن، هذا فضلاً عمن رحل إليه رحلة علم من خارج بلدة سدوس، فكان هو الإمام والخطيب والمفتي والمدرس والمعلم والمستشار لأهالي سدوس، ولا نعلم من هم تلاميذه هناك سوى ما ذكره د. محمد العباد في نبذته عن بعض أعيان أسرة آل معمر الذين تعلموا منه فيقول في نبذته: "كما أثنى عليه أمير الدلم عبدالرحمن آل معمر، وكان يقول: أنا درست عليه، كان مهيباً وأوجد الأثر الجميل، بكت الناس على رحيله، الرجال والنساء والصبيان، بعد أن طلبه مفتي الديار ليكون معلماً، كما تحدث عنه أمير الأفلاج والمجمعة وحريملاء عبدالله بن إبراهيم آل معمر وكان إذا تحدث عنه بكى بكاء مراً وتحسر عليه، مثنياً على غزارة علمه ومن صدق تقواه".

معهد علمي

وافتتح أول معهد علمي بالرياض عام 1371هـ، ثم افتتح معهد إمام الدعوة، فكان من ضمن المرشحين للتدريس فيه محمد بن عباد، فصدر الأمر بتعيينه أستاذاً في معهد إمام الدعوة، وكان من زملائه في المعهد عبدالعزيز السلمان، فدرّس الفوج الأول من طلاب المعهد والأفواج المتتالية حتى توفي رحمة الله، ومن جانب آخر فإن الشيخ ابن عباد تعين إماماً بمسجد حي دخنة، ومشرفاً على مصلحة الزكاة، كما تولى الإشراف على الأئمة والخطباء بالرياض، وهذه الوظائف جاءت ثقة بعلمه من قبل الشيخ محمد بن إبراهيم الذي كانت للشيخ ابن عباد مكانة خاصة لديه، ورُشّح أن يكون أستاذاً في كلية الشريعة لكن الظروف المرضية حالت بينه وبين التدريس فيها.

عشقه للكتاب

وكان الكتاب جليساً لمحمد بن عباد -رحمه الله-، فكانت خلوته للقراءة والاطلاع، سيما في العلوم الشرعية، ويقدر عدد الكتب في مكتبة 15 ألف كتاب، وهذا عدد ضخم بالنسبة لفرد واحد، وهذا الرقم لعله اجتمع لابن عباد منذ بدايات طلبه للعلم، فهو يشتري ويقتني الكتب، وكانت جملة من الكتب تباع في مكة وقد جاورها وطلب العلم فيها، ولا يستبعد أنه اشترى أمهات المصادر والمراجع في فنون العلم، وقد رأيت جزءاً من مكتبته في مكتبة الرياض السعودية، التي كانت مأوى العلماء وطلبة العلم آنذاك بحي دخنة، وكانت مصدراً من مصادر العلم والثقافة ليَّ، أعود للشيخ ابن عباد فهذه مكتبته التي كانت عالمه الآخر قضى فيها الأيام والليالي والسنين، قارئاً قراءة طالب علم ماهر، حاذق خبير بما يقرأ، ناقداً ومعلقاً فيما يطالع، لهذا كانت كتبه مليئة بالهوامش والتعليقات.

دواء القلوب

و(دواء القلوب) هو الكتاب الوحيد الذي نشر في حياته وعرف به، وهو كتاب وعظي من كتب الرقائق والسلوك، وقد اقتنيت هذا الكتاب عندما كنت بالمرحلة الثانوية، وطالعته مراراً، وكان محمد بن عباد -غفر الله له- يهدف من تأليف هذا الكتاب النصح والإرشاد للعامة، كان من العلماء الوعّاظ الذين وهبهم الله طلاقة في الحديث الوعظي مستحضراً الآيات والأحاديث وأقوال السلف الصالح، فكان هذا الكتاب صورة حية له في جانب من جوانب حياته العلمية، وقد انتقى كتابه من كتب ابن القيم وابن رجب وابن الجوزي ومن حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني ومن إحياء علوم الدين للغزالي، وغيرها من الكتب، وجعله فصول متنوعة، واهتم أن تكون الألفاظ مضبوطة بالشكل ليسهل قراءتها، وبالأخص من أئمة المساجد والخطباء والوعاظ والمرشدين، فهي مختارات قيمة ونفيسة لمن أراد الذكرى والاعتبار بما يقرأ، والكتاب يحتاج إلى إخراج جديد وعناية من حيث تخريج أحاديثه وتوثيق نصوصه، فهو تحفة وعظية تذكرك بكتب القدامي أمثال كتب ابن الجوزي، فهو إمام هذه الصنعة ورئيسها وعميدها، لكن أساليب الوعظ تغيرت وتبدلت الآن بكتب حديثة ملائمة للعصر والأساليب ليست توفيقية بل اجتهادية، المهم أن تكون مباحة وهي من العلم النافع، اقصد كتب الوعظ والرقائق.

وعلى صعيد آخر فإن كتاب (دواء القلوب) لم يذكره العالم العراقي علي جواد الطاهر في موسوعته معجم المطبوعات، وهو على شرطه الزمني، وهذا مما يستدرك عليه -رحمه الله-.

حادثة سرقة

وحدثني عبدالله بن الشيخ محمد بن عباد -رحمه الله- وكنت في منزله في صيف عام 1427هـ عن سبب مرض والده عندما سرق منزله، وكان تلك الليلة التي سرق فيها مدعواً إلى زواج، فلما رجع إلى منزله فجع بهذه السرقة والجائحة، حيث سرقت نقوده كلها ويقدر المبلغ بـ(15) ألف ريال أو أكثر، وهذا المبلغ له قيمة في وقته، وذلك في حدود 1379هـ، وأبلغ الجهات المختصة، وعملت البحث والتحري، لكن لم تعثر على السارق، وبعد هذه السرقة تأثر الشيخ ابن عباد تأثراً بليغاً جداً، وقد أورد قصة السرقة القاضي في كتابه (روضة الناظرين)، وذكر أن بعض المبلغ أمانات عند محمد بن عباد، واحتسب هذا المبلغ عند الله عز وجل، ومرض وتعب جداً، ثم سافر إلى لبنان للعلاج مع ابنه عبدالرحمن، لكن لم يتماثل للشفاء، وتوفي ودفن هناك بتاريخ الثاني عشر من جمادى الأولى لعام 1380هـ، أسكنه الله الفردوس الأعلى، وفي هذا العام توفي أيضاً المؤرخ والرحالة النابغة عبدالله فلبي في لبنان وتحديداً في شهر ربيع الآخر -رحمه الله- ودفن فيها.

أشكر الدكتور محمد بن إبراهيم العباد على تواصله معي وإمدادي بنبذته عن الشيخ محمد بن عباد -رحمه الله- وما يتعلق بهذه السيرة من صور، فله مني وافر الشكر والتقدير والعرفان.

دواء القلوب نشره ابن عباد وهو كتاب وعظي من كتب الرقائق والسلوك
مكتبة الرياض السعودية ضمّت مكتبة ابن عباد فكانت مصدراً للعلم والثقافة
وُلد محمد بن عبدالرحمن بن عباد 1331هـ في بلدة الصفرات