كثر في الآونة الأخيرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي ظهور بعض الشخصيات التي تطرح مسائل خلافية وجدلية بين المذاهب الإسلامية، للأسف الشديد ليس الهدف منها المعرفة وإظهار الحق بالحجج والأدلة العلمية، بل ما نراه محزن جداً لأنه يهدف إلى تعميق الخلافات وزرع مشاعر الكراهية والحقد، وتحاول استقطاب الجماهير التي تحب من يخوض بالجدل المذهبي وتعده انتصاراً لها، وكأنك في حلبة مصارعة الفائز فيها ليس من يملك الحجة، بل من يضع كامل ثقله ليجادل من أجل الجدل فقط، وإن كانت كل معلوماته مغلوطة ويستند إلى أدلة غير صحيحة، بل وأحياناً لا يملك دليلاً حتى، يفتح المجال للجدال وفق الهوى المذهبي بلا دراية أو علم فقط «ولاتقف ما ليس لك به علم».

  • الجدل سلاح ذو حدين: بوابة للمعرفة وسبيل للانقسام*

    فمن المؤكد أننا عندما نتحدث عن الجدل بصورة عامة فهو ليس أمراً سلبياً، بل هو سبيل لتعريف الناس بمختلف الأفكار والمعتقدات ومناقشتها ومقابلة الفكرة بالفكرة والحجة بالحجة، وهو ذو جانبين أحدهما ممدوح ومطلوب والآخر عقيم، فالجدل المرغوب هو الذي يتعلق بإحقاق الحق وإثباته ودحض الشبهات، وفي هذا يقول سبحانه وتعالى: «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ»، وإن له أهله المختصون من أهل العلم والمعرفة العلماء النجباء الثقاة وليس أياً من كان يخوض هذا السبيل، كما أن له شروطه ووسائله التي ينبغي إدراكها واستخدامها بالطريقة الصحيحة حتى يؤتي الجدل أكله وأهدافه المرجوة، ومن بين شروطه التي ذكرتها الآية الكريمة الجدال بالتي هي أحسن وبالحكمة، والمقصود هنا أن يكون الجدل مبنياً على علم وبينة ويطرح بالأسلوب السمح واللين وليس بالتشدد والعصبية والانفعال الذي يصاحبه الشتم والسب الذي نهى ربنا عزوجل عنه في قوله «ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك»، بل إنه شدد على أهمية جدال غير المسلمين بالسماحة واللطف كي يتعرفوا على الإسلام «وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزلَ إِلَيْنَا وَأُنزلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ».

    أما الجدل المرفوض فهو الذي يغذي الخصومة والأحقاد ومشاعر الكراهية، ويزيد في تعقيد المسائل، وفي ذلك يقول تعالى: «وما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا»، ولقد حذر رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم من هذا النوع من الجدل وحذر منه في قوله: «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل».

استخدام المذاهب كورقة للجدل يهدم أصول المعرفة

في الوقت الذي نعمل فيه على رفض إقصاء الآخر، وندعو لتفعيل الجامع المشترك بين المسلمين ونثبته ونقويه ونعمم ثقافة مد الجسور العملي مع الآخر بالتسامح بقبوله كما هو والتعايش معه والاحترام المتبادل بيننا، ونقدم بل ونبذل الجهود لنترك كل ما من شأنه إثارة النعرات وإيقاظ الفتن وإرجاعنا إلى الماضي ومحاولة إبعادنا عن حاضرنا ومستقبلنا ومنعنا من التقدم والتطور عبر فتح جدال عقيم والخوض فيه والدخول بسجالات -للأسف- تصنع عداء وانقساماً وتفرقة وضجيجاً مصطنعاً يخدم أصحاب الأجندات المشبوهة، ونعود ونؤكد أن هذه المسائل حساسة للغاية وعرضها بهذه الطريقة مفسدة هدفها بث الفرقة وليس المعرفة وتعريف الناس بالحق كما يدعون، لأن الهدف واضح وضوح الشمس في رابعة النهار، وهو زعزعة المعتقدات وضربها وخلق حالة من الفوضى وتشتيت الأمة، لذلك يقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم في هؤلاء: «أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم»، ونسي هؤلاء أن مردهم إلى الله وسيتحملون مسؤولية ما يقومون به من أفعال مذمومة تسببت في شق صف الأمة «وقفوهم فإنهم مسؤولون».

ومن هنا ينبغي اتخاذ القرار الحكيم في شأن الجدل المذهبي ووضع حد لهؤلاء المدعيين، وعلى المتلقين ورواد مواقع التواصل الاجتماعي أن يحذروا منهم ويتصدوا لهم بمختلف الطرق حتى لا ينجر العباد لهؤلاء الضالين المضلين، وتقع علينا جميعاً مسؤولية نشر وتفعيل ثقافة الوعي الديني وأهمية الانفتاح والتسامح وقبول الجميع كما هم مختلفين لحكمة إلهية للعيش بسلام وأمان.

*الأمين العام للمجلس الإسلامي العربي