نلاحظ أن هناك رغبة جادة في التحول إلى تعظيم القوة العربية الإقليمية باستخدام الأدوات الناعمة لا الصلبة، وهذا ذكاء سياسي، وهو لب "قمة جدة" التي حرصت عليه القيادة السياسية السعودية - رئيسة الدورة الحالية - وهو ما حاز على اهتمام استثنائي عالمي سواء كان سياسيًا أو إعلاميًا..

كان من المهم بُعيد انتهاء أعمال القمة العربية للدورة الـ32 التي عُقدت نهاية الأسبوع الماضي، التركيز بعض الشيء على فهم توجهات بعض الأطراف العالمية الإعلامية ورؤيتها تجاه قمة جدة والمآلات التي ترتكز عليها، خاصة أن هذه الدورة تأتي في ظل ظروف استثنائية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

الصحافة الغربية عمومًا كانت على نقيضين تمامًا، من نظرتها للقمة قبل وبعد انتهاء أعمالها، فالدوافع السياسية للأنظمة الغربية تطابقت بشكل كبير مع منصاتها الإخبارية والتحليلية بشكل سلبي، ويمكن الإشارة إلى "الغارديان" البريطانية و"الواشنطن بوست" الأمريكية، وغيرهما الكثير. هذا السخط والغضب مفهوم تمامًا لعدم رغبتهم في رؤية تكامل عربي مُشترك، يُحقق رغبات الشعوب العربية، فضلًا عن امتلاك العرب لمقومات البقاء ومواجهة التحديات.

لنكن صرحاء ومن دون مجاملات سياسية، فإن المملكة العربية السعودية تعي تمامًا طبيعة المرحلة المقبلة على مستوى المنطقة، وهي تتحرك فعليًا لتأمين الأمن القومي العربي، عبر الالتفات إلى التنمية الاقتصادية المُستدامة، بدلًا من أجواء الصراعات والانقسامات التي شكلت واقعيًا عبئًا كبيراً على حاضرتنا العربية.

لست هنا في معرض التسويق للمملكة العربية السعودية أو قيادتها السياسية، لكن ما أستطيع التأكيد عليه هو أن إدارتنا السياسية استطاعت تقديم خارطة طريق لإخراج المنظومة العربية من ضائقتها الحالية إلى التوسع التنموي، وهو بصراحة ما أرادته الشعوب منذ عقود طويلة، هذا أولًا، أما ثانيًا - وهو الأهم برأي - فإن على العرب أن يعيدوا تموضعهم السياسي والاقتصادي والجمعي والأمني، ورسم آفاق جديدة للسياسة الخارجية في ظل الفرص الناشئة في النظام العالمي المتغير؛ انطلاقًا من كوننا عنصرًا فاعلًا وليس مفعولًا به، بحسب وصف أمين جامعة الدول العربية، أحمد أبو الغيط.

ما لاحظته من تبعات هذه القمة وبيانها الختامي، أن هناك رغبة جادة في التحول إلى تعظيم القوة العربية الإقليمية باستخدام الأدوات الناعمة لا الصلبة، وهذا ذكاء سياسي، وهو لب "قمة جدة" التي حرصت عليه القيادة السياسية السعودية - رئيسة الدورة الحالية - وهو ما حاز على اهتمام استثنائي عالمي سواء كان سياسيًا أو إعلاميًا، ولعلي أشير هنا إلى ما طرحته صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية اليسارية، التي خلصت إلى أن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، نجح من خلال عودة سوريا بقرار من جامعة الدول العربية، ثم الوصول المفاجئ لفولوديمير زيلينسكي، في أن يجعل من القمة حدثًا عالميًا غير مسبوق؛ بينما يجذب عادة (القمة العربية) اهتمامًا محدودًا جدًا من وسائل الإعلام.

هذا الاستثناء للقمة العربية؛ يعود من وجهة نظري المتواضعة إلى فاعلية التوجه السعودي من نقل المنطقة من مربع الصراعات والنزاعات إلى نقطة مفصلية تقوم على مبدأ مهم، وهو "التنمية الاستراتيجية"، كما أنه تأكيد على الوزن الثقيل للمملكة العربية السعودية في العالم العربي.

وبعيدًا عن "التصدعات السياسية"، فإن المبادرات النوعية والمهمة التي ستعمل عليها المملكة خلال رئاستها للدورة الحالية تتسق مع التموضع التنموي للقمة، وهو "مبادرة إنشاء حاوية فكرية للبحوث والدراسات في الاستدامة والتنمية الاقتصادية"، الأمر الذي سيتمخض عنه احتضان التوجهات والأفكار الجديدة في مجال التنمية المستدامة وتسليط الضوء على أهمية مبادراتها في المنطقة العربية لتعزيز الاهتمام المشترك ومتعدد الأطراف بالتعاون البحثي وإبرام الشراكات الاستراتيجية.. دمتم بخير.