تفاصيل الحياة هي حقيقة الإنسان، وهي سعادته أو شقاؤه، لا مجرد اللقاءات العابرة، أو حتى التغريدات المنمقة والمنشورات المحررة، فكل ذلك قد لا يكون انعكاسًا حقيقيًا للمغرد أو الكاتب، فحقيقة شخصيته هي في كواليس حياته..

كثير من الناس يرسم عن حياتك صورة نمطية بناءً على ما يراه منك في لقاء، أو ما يوحيه إليه مظهرك وملبسك اعتبارًا بتصنيفات المجتمع، فيقطع عن نفسه طريق التعارف بالآخرين، وهو الأمر الذي جعلنا الله لأجله شعوبًا وقبائل «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا».

تفاصيل الحياة هي حقيقة الإنسان، وهي سعادته أو شقاؤه، لا مجرد اللقاءات العابرة، أو حتى التغريدات المنمقة والمنشورات المحررة، فكل ذلك قد لا يكون انعكاسًا حقيقيًا للمغرد أو الكاتب، فحقيقة شخصيته هي في كواليس حياته، في بيته، في مكتب عمله، في حافلته، في سفره، في التعامل معه، فهنا تجد في كل إنسان صورته الحقيقية التي انطبع عليها وتشكل بها. وفي بعض الأخبار "أن رجلًا أثنى على رجل عند عمر - رضي الله عنه - فقال: صحبته في سفر؟ فقال: لا، قال: فائتمنته على شيء؟ قال: لا، قال: ويحك! لعلك رأيته يخفض ويرفع في المسجد." وهذا - إن صحت القصة وقد ذكرها أئمة كابن تيمية - يعطينا صورة عن نظرة عمر رضي الله عنـه في التعرف على الآخرين حين إرادة الاختلاط بهم والتعامل معهم، في شتى أبواب الحياة.

وفي أخلاقيات نبينا صلى الله عليـه وآله وسلم أروع الأمثلة لتفاصيل حياة الإنسان بسجاياه غير المتكلفة، فقد نفى الله عنه التكلف عمومًا «وما أنا من المتكلفين». وفي خروجه مهاجراً إلى المدينة تفاصيل مسافر ورفيقه، فلم تكن سفرة نزهة يصطحب فيها المسافر ما لذ وطاب من المآكل، ويرافقه فيها المراكب الهنيئة والأجهزة الترفيهية الحديثة، بل كانت سفرة خائف مطارد، لا يحرص على صحبته فيها إلا رجل قد بلغت به المحبة مبلغها، «ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا» ولك أن تذهب بخيالك إلى عمق الغار وإحداثيات الزمان والمكان آنذاك، فخلدت تلك السفرة وتلك الرفقة بآيات تقرأ إلى يوم القيامة.

ومن تفاصيل حياته صلى الله عليه وآله وسلـم في قصة وإن كان بها طول إلا أنها تعبر عن أجمل تفاصيل النبي عليه الصلاة والسلام في إنسانيته، يرويها البخاري عن أبي هريرة وفيها: "... ثم مر بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، فتبسم حين رآني، وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال: «يا أبا هر» قلت: لبيك يا رسول الله، قال: «الحق» ومضى فتبعته، فدخل، فاستأذن، فأذن لي، فدخل، فوجد لبناً في قدح، فقال: «من أين هذا اللبن؟» قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة، قال: «أبا هر» قلت: لبيك يا رسول الله، قال: «الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي» قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون إلى أهل ولا مال ولا على أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئاً، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة، كنت أحق أنا أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جاء أمرني، فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بد، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا، فاستأذنوا فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت، قال: «يا أبا هر» قلت: لبيك يا رسول الله، قال: «خذ فأعطهم» قال: فأخذت القدح، فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح، فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح، حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده، فنظر إلي فتبسم، فقال: «أبا هر» قلت: لبيك يا رسول الله، قال: «بقيت أنا وأنت» قلت: صدقت يا رسول الله، قال: «اقعد فاشرب» فقعدت فشربت، فقال: «اشرب» فشربت، فما زال يقول: «اشرب» حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق، ما أجد له مسلكاً، قال: «فأرني» فأعطيته القدح، فحمد الله وسمى وشرب الفضلة. في الكواليس تظهر المعادن على حقيقتها. هذا، والله من وراء القصد.