على الرغم من ثقل الموضوعات على جدول أعمالها، إلا أن رئيس الدورة 32 للجامعة العربية، صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، نيابة عن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، نجح في إدارة واحدة من أخطر الدورات التي عقد في العقد الماضي، نظرًا للأحداث الخطيرة التي شهدتها المنطقة، ولا تزال، مما هدد وجودها واستقرارها وتسبب في تفككها.

وبكل الهدوء المعروف عنه، شخّص سمو ولي العهد الوضع العربي الراهن مؤكدًا "لدول الجوار، وللأصدقاء في الغرب والشرق، أننا ماضون للسلام والخير والتعاون والبناء، بما يحقق مصالح شعوبنا، ويصون حقوق أمتنا، وأننا لن نسمح بأن تتحول منطقتنا إلى ميادين للصراعات، ويكفينا مع طي صفحة الماضي تذكر سنوات مؤلمة من الصراعات عاشتها المنطقة، وعانت منها شعوبها وتعثرت بسببها مسيرة التنمية".

وشدد سموه على المفاصل المحورية في جدول أعمال القمة، وهي حضور الرئيس السوري بشار الأسد، لهذه القمة واستئناف مشاركة وفود الحكومة السورية، في اجتماعات مجلس جامعة الدول العربية، بعد صدور قرار الجامعة بهذا الشأن، معربًا عن أمله في "أن يسهم ذلك في دعم استقرار سورية، وعودة الأمور إلى طبيعتها، واستئناف دورها الطبيعي في الوطن العربي، بما يحقق الخير لشعبها، وبما يدعم تطلعنا جميعاً نحو مستقبل أفضل لمنطقتنا."

أما القضية الثانية، فكانت القضية الفلسطينية التي قال عنها سموه إنها "كانت وما زالت هي قضية العرب والمسلمين المحورية، وتأتي على رأس أولويات سياسة المملكة الخارجية، ولم تتوانَ المملكة أو تتأخر، في دعم الشعب الفلسطيني الشقيق لاسترجاع أراضيه، واستعادة حقوقه المشروعة، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على الأراضي الفلسطينية، بحدود عام 1967م، وعاصمتها القدس الشرقية، وفقاً لقرارات الشرعية الدولية، ومبادرة السلام العربية، وغيرها من المرجعيات الدولية المتفق عليها، بما يحقق تطلعات الشعب الفلسطيني الشقيق"، وبعد أن تطرق سموه إلى الجهود التي تبذلها المملكة في دعم القضايا العربية، والعمل على مساعدة الأطراف اليمنية للوصول إلى حل سياسي شامل ينهي الأزمة اليمنية، أعرب عن أمله أن تكون لغة الحوار هي الأساس، للحفاظ على وحدة السودان، وأمن شعبه ومقدراته.

لقد كانت كلمة سموه واضحة وصريحة وجاءت ضمن رؤيته للوطن العربي الذي "يملك من المقومات الحضارية والثقافية، والموارد البشرية والطبيعية، ما يؤهله لتبوّؤ مكانة متقدمة وقيادية، وتحقيق نهضة شاملة لدولنا وشعوبنا في جميع المجالات".

بهذه الكلمة، رسم سموه المسار للمستقبل الذي أكد عليه البيان الختامي الذي صدر عن القمة، وكذلك كلمات رؤساء الوفود المشاركة الذين ألقوا كلمات امتدت لنحو أربع ساعات ونقلتها معظم وسائل الإعلام العربية.

في تنظيمها للقمة، بذلت الدبلوماسية السعودية جهدًا مضنيًا على مدار الساعة لضمان حضور كل الدول العربية لاجتماعات وزراء الخارجية، ثم اجتماع القمة.

حضور أعطى زخماً أكبر

كانت الهموم الخاصة واضحة في كلمات رؤساء الوفود، وتحديدًا الصومال وليبيا والسودان وفلسطين واليمن ولبنان والسودان. الرئيس السوري اختار أن يتحدث عن العروبة والانتماء والانتقال من حضن إلى آخر.

رئيس المجلس الرئاسي اليمني محمد رشاد العليمي قال: إن الشعب اليمني لا يزال يعاني من ويلات الحرب، مشيرًا إلى ممارسات الميليشيات الحوثية التي تواصل تهديد أمن المنطقة والملاحة البحرية، والتي تحشد أكثر من مليون طفل بمعسكرات تعبوية متطرفة. وهذا مؤشر خطير على أن الميليشيات الحوثية ليست جادة في التوصل إلى تسوية سياسية سلمية للنزاع في اليمن، على الرغم من تطبيع العلاقات بين المملكة وإيران، ما ينذر بتفجر الأزمة من جديد في حال انتهاك الهدنة الحالية.

لكن الجامع المشترك في كلمات رؤساء الوفود هو التأكيد على مركزية القضية الفلسطينية، وحصول الشعب الفلسطيني على حقوقهم المشروعة وإنشاء دولتهم المستقلة، على حدود الرابع من حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، في الوقت الذي صعّدت فيه الحكومية اليهودية المتطرفة، من إجراءاتها القمعية ضد الشعب الفلسطيني الأعزل، وهو ما جعل الرئيس الفلسطيني محمود عباس يطالب بحماية دولية، لكنه قال في احتفالية أقامتها الأمم المتحدة في الذكرى 75 للنكبة، أن الدول الغربية تحرص على حماية الحيوانات لكنها لا تعير اهتمامًا لمصير هذا الشعب المهدد بالموت اليومي.

وما تضمنه الكلمات، أمنيات، لأن إسرائيل لن تستجيب لنداءات السلام، لأنه ليس في مصلحتها بعد أن ابتلعت معظم أراضي الضفة الغربية، ووطنت فيها مئات الآلاف من المستوطنين اليهود، الذين جلبتهم من مختلف بقاع العالم لتثبيت الاحتلال وقتل أي فرصة للسلام.

هذه النداءات والطلب من إسرائيل، تطبيق قرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة لن يجبر إسرائيل على الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة، لكن ما يجبرها هو الضغط على الدول الأوروبية والولايات المتحدة الراعية لها.

طرحت في القمة مقترحات ورؤى كثيرة، ومنها تعزيز العمل العربي المشترك وتفعيل ميثاق الجامعة العربية، ورفض التدخلات الخارجية في شؤون المنطقة، وهذا بكل تأكيد شرط لوقف الصراع في السودان ونهاية "السنوات العجاف" التي يمر بها لبنان الذي لم يتمكن الفاعلون فيه من انتخاب رئيس له.

على هامش القمة حدثت مفاجأة حضور الرئيس الأوكراني فولاديمير زيلينسكي، التي لم تكن مقررة أصلاً ليتحدث عن الحرب في بلاده وعن "حماية في شبه جزيرة القرم" ولم ينسَ أن يقول إن بعض المشاركين في القمة لا يؤيدون بلاده في الحرب مع روسيا، ويحاول زيلينسكي اغتنام أي فرصة للتحدث أمام المحافل الدولية، وقد حضر قمة جدّة وهو في طريقة على طائرة فرنسية لحضور قمة السبع الكبار الاقتصادية في مدينة هيروشيما اليابانية.

هذا الحضور، كما فسّره وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان، هو الاستماع إلى وجهات النظر المختلفة ضمن سياسة "الحياد الايجابي" من الحرب في أوكرانيا.

مقابل هذا الحضور، أبرق الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين إلى القمة العربية مؤكدًا اهتمام بلاده الكبير بتطوير العلاقات الودية، وتعاون الشراكة البناءة مع دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وبالحوار مع جامعة الدول العربية للتوصل إلى حلول للأزمات في السودان واليمن وليبيا وسورية والقضية الفلسطينية "مع الاحترام الثابت لسيادة الدولة وأحكام القانون الدولي القائمة".

بدوره، بعث الرئيس الصني شي جين بينغ، كما ذكرت وكالة شنخوا الرسمية، برسالة إلى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، هنأه فيها على انعقاد القمة وأعرب عن تقديره للمملكة "التي قدمت، بصفتها قوة مهمة في عالم متعدد الأقطاب، مساهمات إيجابية في تعزيز التضامن والتنسيق بين الدول العربية والحفاظ على السلام والاستقرار في الشرق الأوسط".

أما الرئيس الأميركي جو بايدن، فكان يزور مع رؤساء مجموعة السبع الكبار النصب التذكاري لضحايا القصف النووي الأميركي لمدينتي هيروشيما ونجازاكي في عام 1945 وأدى إلى مقتل أكثر من 140 ألف إنسان! بينما كان مئآت اليابانايين يتظاهرون ضد الإمبريالية والرأسمالية.

في كل الأحوال، مع أنه أطلق على القمة اسم قمة التجديد والتغيير، فقد سماها أحد المراقبين بقمة "تصفير الأزمات"، بينما سماها رئيس وزراء لبنان نجيب ميقاتي بقمة "تضميد الجروح، إلا أنه ليس من قبيل المصادفة أن انعقادها تزامن مع انعقاد قمتين مهمتين، ضمن السباق المحموم على مناطق النفوذ وبناء التكتلات والاستقطابات والمحاور، من أطراف تسعى إلى إبقاء هذا العالم أحادي القطب، بينما تسعى أطراف أخرى إلى بناء عالم متعدد القطبية.

قبل انعقاد قمة السبع الكبار في هيروشيما، استضاف الرئيس الصيني قمة دول آسيا الوسطى معلنًا عن خطة تنمية واسعة، في دول الاتحاد السوفيتي السابقة مستغلاً انشغال الإدارة الأميركية في التجييش ضد روسيا.

أما القمة الثانية، فهي قمة السبع الكبار الذين اتفقوا على تحييد الصين وكبح صعودها التزايد، وخنق روسيا وتجفيف مصادر دخلها بدلاً من الالتفات لمشكلاتهم الداخلية المتفاقمة.

وفي هذا السياق، تكتسب قمة جدّة أهمية كبيرة، لأنها ركزت على خلطة التنمية المستدامة والاستقرار والأمن الغذائي والمائي، وأعادت تذكير العالم بثقل قيادة المملكة ودورها في جمع كلمة الأمة العربية، في وجه محاولات استقطابها وتهميشها والاستحواذ على مقدراتها، ومصادرة قرارها المستقل.

.