أصبحت المتناقضات سمة أساسية في الاقتصاد الأميركي، حيث يمكن إدراك حجم التناقضات المهولة للرأسمالية المتوحشة، وعلى سبيل المثال، يعاني 38 مليون أمريكي الجوع، بالرغم من إقامتهم داخل اقتصاد ناتجه الإجمالي يتجاوز 23 تريليون دولار، في الوقت الذي يشتد فيه الخلاف على أزمة سقف الدين، والتي تنذر بالتخلف عن السداد لأول مرة في التاريخ، في الوقت نفسه، يهيمن على الاقتصاد مجموعة محدودة من العمالقة، فهناك 4 شركات فقط تسيطر على صناعة أغذية الأطفال، و4 شركات طيران تتولى معظم الرحلات الجوية، أما بالنسبة لتناقضات القطاع المصرفي المأزوم، فحدث ولا حرج، فالقطاع الذي يضم 4000 بنك، يعد الأكثر تقييدًا بين منافسيه في الدول الصناعية الكبرى.

قبل حقبة الكساد العظيم، ثلاثينيات القرن الماضي، كان لدى الولايات المتحدة حوالي 25 ألف بنك، وقتها، لم يكن بإمكان المقرضين العمل خارج الولاية التي يتواجد بها مقر البنك، فقد اتخذت بعض الولايات قوانين صارمة، مما أجبر الشركات المالية على الابتكار، وعلى سبيل المثال، لم يكن مسموحًا للبنوك تأسيس مكاتب فرعية، حتى أن أحد بنوك ولاية إلينوي، اضطر لشراء حق الطريق، أسفل الشارع، حتى يتمكن من توسيع عملياته، ومنذ ذلك الوقت وحتى اليوم، أصبحت البنوك المجتمعية ملاذاً لأصحاب الأعمال الصغيرة والمتوسطة، ولا شك، أنه كان لديها ذات المخاطر التي تواجه المصارف اليوم.

تعد البنوك الإقليمية الأكثر تضرراً من تقلبات الأسواق الناشئة، والقطاعات التي تتخصص فيها، وعلى سبيل المثال، عندما توقف بناء السكك الحديدية أواخر تسعينيات القرن التاسع عشر، تراجعت أرباح البنوك التي كانت تقوم بتمويل استثمارات البنية التحتية، وعندما يمر المزارعون بسنوات صعبة، سواء على مستوى الجفاف أو الإنتاج والحصاد، أو تعطل سلاسل الإمدادات عبر المدن والمطارات، فإن الأمر يصبح صعباً أيضاً للبنوك الزراعية، وهذا ما حدث، منتصف مارس الماضي، مع انهيار بنك وادي السيليكون، والذي خدم في الغالب الشركات الناشئة في قطاع التكنولوجيا.

لكن، قمة التناقضات هو في المتوالية الهندسية لهذه الانهيارات المصرفية في بلد يضم رقماً قياسياً من البنوك، ما يجعله الأكثر تواجداً في أي دولة بالعالم، وفي قطاع يقوده أكبر بنك مركزي في العالم، ويبدو محصناً بقوة الدولار التي لا يشق لها غبار، لكننا، مع ذلك نعتقد، أن هذا العدد الخرافي من البنوك مبالغ فيه للغاية، حتى ولو كان ينعم بالعمل داخل بيئة أكبر اقتصاد عالمي، ولهذا، نتوقع تقلص هذه الأعداد الفلكية خلال السنوات المقبلة بفعل دورات التشديد الاقتصادي، وشدة المنافسة، وعلى أية حال، فإننا لا نتصور أن 4000 بنك عدد مثالي للعمل في أي دولة، أو رقم سحري يمكنه حماية النظام المالي، سواء للولايات المتحدة أو غيرها.

دائماً، هناك قلة قليلة جدًا من البنوك قادرة على البقاء والمنافسة، بسبب تمتعها بالسيولة والابتكار وحسن إدارة المخاطر، والواقع، أن البنوك مثل أي شركة، بعضها ينجح، والآخر يفشل، وهذا أمر طبيعي، وقد لوحظ خلال العقدين الماضيين، أن الأزمات المصرفية الطاحنة تركزت في نوعية البنوك الإقليمية والصغيرة، وهذا درس تاريخي، مفيد للعملاء الذين يريدون اختيار بنك موثوق للتعامل معه، ونظراً لأن عمل المصارف قائم على الثقة، فإن مكافحة عدوى فقدان الثقة تعد ضمن أولويات البنوك اليوم، وهى مهمة شاقة تتطلب إرسال إشارة طمأنة للمودعين، حتى يتمكنوا من فصل الخراف عن الماعز، إذا جاز التعبير، أو بعبارة أخرى، تبصير العملاء، حتى يستطيعوا التفرقة بكفاءة بين البنوك الجيدة والسيئة.