أين هي التجارة التي لا تبور، ولن تبور، لا يمكن لها أن تخسر مطلقاً، مهما كانت الجائحات، ومهما تغيرت الأحوال، ومهما كان مستوى الاقتصاد وسعر العملة، ولو توقف النشاط بحجر أو بغيره؟ إنها التجارة مع الله، فهي تجارة لن تبور، تجارة ربحها بيّن، مضمون، ورأس مالها لا يكلف شيئاً..

يتمنى الناس كل الناس أن يكونوا أغنياء، لهذا يسعون في الأرض ويتنافسون في مجالات الربح المتوقعة، وغير المتوقعة، وامتلأت خزائن قوم، واشتهرت أرصدتهم، وتمنى كثيرون كما تمنى قوم قبلهم فقالوا (يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون، إنه لذو حظ عظيم).

وملئت السجون بكثير ممن بارت تجارتهم، وخسروا أموالهم في مساهمات الأسهم وغيرها من طرق سعوا فيها ليغتنوا، (فما ربحت تجارتهم، وما كانوا مهتدين).

وكم ركض أناس وراء الملايين، وتحملوا من أجلها الديون، حتى آل الأمر بهم إلى الإعسار، ووقف الخدمات!

ومما لا نقاش حوله ولا فيه أن السعي للغنى أمر مشروع، وسعي مشكور، إذا اتبعت الطرق الشرعية، وكانت النية فيه لغنى النفس، وصونها عن التذلل وسؤال الناس، أعطوه أو منعوه.

بيد أن الحال التي يسعى الأكثرون فيها إلى الغنى ليس مراداً منه إلا المباهاة، وملذات الدنيا وكمالياتها، من سفر وتسوق وغير ذلك.

ولا ريب أيضاً أن الإنفاق في ملذات الدنيا ليس بمحرم، وللمرء المسلم أن يتمتع بما رزقه الله من حله، وينفقه في حله، ولا عتب عليه. قال جل في علاه (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه، وإليه النشور) وقال عز من قائل (فكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً). وإنما ذكرت هذا لكي لا يظن ظان أنّا نحرم ما أحل الله، أو نضيق على الناس ما وسع الله. لكن، بنفس المنطق والعقلانية لعلنا نتساءل، لو أن رجلاً يملك أرضاً، فباعها بقيمة هي أغلى مما كان يتوقع وينتظر، أليس كلنا سيقول لقد ربح، وكم هو محظوظ؟ بلى، ولكن أيضاً لو باعها بذلك السعر الذي لم يتوقعه، وهو يفوق قيمتها، ثم علم أن من اشتراها منه قد باعها بربح في أقل من أسبوع، ألا يشعر بغبن، ويرى أنه قد خسر الربح الذي ربحه المشتري، ولو أنه صبر لكان ربح زيادة عما ربحه في البيعة الأصلية؟

فلنا أن نسأل: هل ربح البائع أم خسر؟ والجواب هو ربح من جهة، وخسر من أخرى.

ومن هنا ننطلق إلى ما أردنا بيانه في هذا المقام، بعد هذه التوطئة فأقول:

أيها الأحبة: لو ربح أحدنا الدنيا كلها، وصارت بيده ملكاً ليمينه فإنها لن تدوم له، ومصيرها إلى ورثته، ولا بد أن يأتي يوم لتجارته أن تكسد، كما في الصحيح أنَ للنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ناقَةٌ تُسَمَّى العَضْباءَ، لا تُسْبَقُ - قالَ حُمَيْدٌ: أوْ لا تَكادُ تُسْبَقُ - فَجاءَ أعْرابِيٌّ علَى قَعُودٍ فَسَبَقَها، فَشَقَّ ذلكَ علَى المُسْلِمِينَ حتَّى عَرَفَهُ، فقالَ: حَقٌّ علَى اللَّهِ أنْ لا يَرْتَفِعَ شيءٌ مِنَ الدُّنْيا إلَّا وضَعَهُ. رواه البخاري.

وكم رأينا عروشاً اقتصادية هوت في الأزمات التي لم تكن تخطر على بال أكثر الناس تشاؤماً.

فأين هي التجارة التي لا تبور، ولن تبور، لا يمكن لها أن تخسر مطلقاً، مهما كانت الجائحات، ومهما تغيرت الأحوال، ومهما كان مستوى الاقتصاد وسعر العملة، ولو توقف النشاط بحجر أو بغيره؟

إنها التجارة مع الله، فهي تجارة لن تبور، تجارة ربحها بيّن، مضمون، ورأس مالها لا يكلف شيئاً، قد تتاجر وأنت مفلس، بنيتك الصالحة، قد تتاجر بابتسامة، بكلمة طيبة، تتاجر بلسانك بذكر وتسبيح، وتتاجر بمالك، ليس كله، ولا نصفه، فتنفق منه سراً وجهراً، بالليل والنهار، {ومما رزقناهم ينفقون}، تصل منه رحمك، وتنفق على عيالك، قال صلى الله عليه وآله وسلم لسعد رضي الله عنه: "ومَهْما أنْفَقْتَ فَهو لكَ صَدَقَةٌ، حتَّى اللُّقْمَةَ تَرْفَعُهَا في فِي امْرَأَتِكَ"، مخرج في الصحيحين. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "دِينارٌ أنْفَقْتَهُ في سَبيلِ اللهِ ودِينارٌ أنْفَقْتَهُ في رَقَبَةٍ، ودِينارٌ تَصَدَّقْتَ به علَى مِسْكِينٍ، ودِينارٌ أنْفَقْتَهُ علَى أهْلِكَ، أعْظَمُها أجْرًا الذي أنْفَقْتَهُ علَى أهْلِكَ".

فهذه تجارة مع الله لا تكلفك شيئاً، وربحها مضمون، وأجرها عظيم، وكم من محروم يظل يمني نفسه بأرباح وأموال وبين يديه الربح كله، والتجارة كلها ولا يلتفت إليها، ولا يلقي لها بالاً، بل ربما رأى المتاجرين فيها من الخاسرين، أو وصمهم بالحمق والسفه، ولعنا نكون ممن تاجر مع الله في شهرنا المنصرم، ونجني أرباحه في عيدنا هذا، سعادة وفرحاً بفطرنا، وننال جائزتنا الكبرى يوم نلقى ربنا، وذلك هو الربح العظيم هذا، والله من وراء القصد..