يعتبر العلاّمة عبدالرحمن بن خلدون ( 732- 808ه) هو واضع علم الاجتماع في كتابه المشهور (المقدمة).. (مقدمة ابن خلدون).. وبها قَدَّم لكتابه التاريخي الكبير.. بعد أن استنبط من استقرائه التاريخي وذكائه الفكري القوانين والسنن الاجتماعية..

وقد استشهد الرئيس الأمريكي الراحل رونالد ريجان بنظرية ابن خلدون في الضرائب، وأنها كلما خفضت زاد إيراد الخزينة العامة، لأن تخفيض الضرائب يزيد الإنتاج، وإذا زاد الإنتاج وتعاظم نتيجة خفض الضرائب تحصلت الخزينة العامة على مبلغ إجمالي أكبر مع خفض الضرائب منه مع رفعها، باعتبار (أن القليل في الكثير.. كثير.. وأن الكثير في القليل.. قليل)..

وطبعاً كان مستشار ريجان وقتها البروفيسور فريدمان الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد، ولا أكاد أشك أنه هو الذي ذكر نظرية ابن خلدون لريجان، وكتب له الخطاب المرفق مع مشروع خفض الضرائب لإقناع الكونجرس بذلك، وقد اقتنع الكونجرس بذلك فعلاً وازدهر الاقتصاد الأمريكي بعد كساده التضخمي في عهد سلفه كارتر بعد ما يُسمَّى بصدمة النفط..

وقد كتب وقتها (1982) على ما أذكر مقالاً بعنوان "بين ابن خلدون والرئيس ريجان" وذكرت فيه بأسف أن الغرب يستفيد من أفكار علمائنا الأفذاذ وآرائهم ونحن العرب والمسلمين لا نفعل ذلك، خاصة أن ريجان ذكر ابن خلدون باسمه وصفته العربية واستشهد بنص كلامه مترجماً..

قلت: ومقدمة ابن خلدون كنز ثمين، العرب والمسلمون عنه غافلون، وخاصة صناع القرار، والمسؤولين عن التخطيط، ولو رجعوا لأفكاره هو وأمثاله من أفذاذ العرب والمسلمين وأخذوا منها ما له صفة الشمول، لكان ذلك أجدى لنجاح الخطط الاقتصادية والاجتماعية، خاصة أن علماءنا الأفذاذ كانوا يعيشون في مجتمع مسلم مثل مجتمعنا الآن، فهم في نفس ظروفنا ويعرفون ما يصلح لنا.. وما يصلحنا.. ومازلت أذكر رسالة هامة أرسلها الخليفة عمر بن عبدالعزيز لأحد ولاته وقال له فيها: (وابدأ بالأهم فالمهم)، وهذا من أولويات التنمية الناجحة، ولو طبقناه لبدأنا بمشكلة الماء.. والكهرباء.. والصرف الصحي.. وأعطيناها الأولوية حتى لا نقع في مآزق تنموية شديدة الخطورة..

@@@

ومقدمة ابن خلدون في حدود 600صفحة حسب الطبعات، وهي مليئة علماً وفهماً وأفكاراً ونظرات ثاقبة، وسعرها في حدود خمسة عشر ريالاً فقط! وقد أهديتها لبعض الأصدقاء فاشتكوا من صعوبة أسلوبها، لذلك سوف (أبسط) ما يرد في هذا المقال من أفكار هذا العلاّمة، مع الاحتفاظ بجوهرها.

فمن الأفكار الاجتماعية الواردة في مقدمة ابن خلدون:

(القسوة على التلاميذ ضارة جداً)

يرى علامتنا (ص 540طبعة دار إحياء التراث العربي. بيروت) أن القسوة على الطلاب ضارة بهم هادمة لمستقبلهم محطمة لشخصياتهم الاجتماعية (لعلها من أسباب انتشار الرهاب الاجتماعي عندنا، فهذا المرض النفسي منتشر في مجتمعنا بشكل كبير، وهو نادر جداً في المجتمعات الغربية، وهو مرض مكتسب بسبب قسوة الآباء والمدرسين)..

ويقول ابن خلدون إن القسوة على التلاميذ تزرع فيهم الخوف، وبسببه يتعلمون ويتعودون الكذب والتظاهر بغير ما في الضمير خوفاً من العقاب. كما يتعلمون المكر والخديعة والتحايل.. وبسبب القهر الذي يصيبهم من قسوة المعلمين عليهم تفسد المعاني الإنسانية في نفوسهم مثل الكرامة والمروءة والنجدة ويحقدون على المجتمع..

كما يقرر ابن خلدون أن قسوة الآباء والمعلمين على الناشئة تمسخ شخصياتهم الاجتماعية ويفقدون القدرة على الاندماج الصحي في المجتمع ويصابون بالخوف (الرهاب الاجتماعي) ولا تزال القسوة تزيد عليهم حتى تنقبض نفوسهم عن غايتها ومدى إنسانيتها وترتكس في أسفل السافلين..

كما يقرر أن قسوة المعلمين على التلاميذ تطمر مواهبهم وملكاتهم وتقتل إبداعهم وانطلاقتهم فيصبح همهم دفع القهر الذي يقع عليهم بالكذب والحيلة والتظاهر (النفاق الاجتماعي) ويفقدون ثقتهم في أنفسهم وفي مجتمعهم..

قلت: ومن رَحِم القسوة البالغة يخرج المجرمون.. والفاشلون.. والحاقدون على المجتمع.. والمتلونون كالحرباء.. ومن قسا عليهم من مدرسين أو آباء سوف يسألون.. ومن أشد القسوة الاستهزاء بالتلميذ وتعمد تخجيله وإحراجه أمام زملائه ويفعلها بعض المدرسين الذين في قلوبهم مرض..

(الرفاهية تُفسد المجتمع)

ويقرر واضع علم الاجتماع عبدالرحمن بن خلدون في عدة مواضع من مقدمته (ومنها ص 371- 374) أن الرفاهية المبالغ فيها تفسد أفراد المجتمع واحداً واحداً من المترفين ثم تفسد المجتمع كله، وهذا معنى قول العامة إنه إذا كثر غرس النارنج واللّيه والسَّرو في المنازل ابتدأ المجتمع في الانحدار الاقتصادي والأخلاقي والإنساني، وليس ذلك - بقول ابن خلدون - لخاصيته في ذلك النبات وإنما معناه أن البساتين في المنازل وإجراء المياه العذبة فيها بإسراف وفي أشجار زينة لا ثمر لها هو من التفنن في الرفاهية والترف، وقد قيل مثل ذلك عن شجر (الدُّفءلى) لأنه لا يُقصد بزرعها في المنازل إلا تلون الحدائق بزهور الدفلى ما بين أحمر وأبيض وهو من مذاهب الترف والإسراف والرفاهية، وكلها داعية إلى الانهماك في الشهوات والاسترسال فيها لكثرة الترف فيقع التفنن في الشهوات كلها مما يفسد خلق الإنسان..

"إن الترف إذا بلغ غايته انقلب إلى الفساد ص 374ثم يقول "إن الأخلاق الحاصلة من الرفاهية والترف هي عين الفساد لأن الإنسان إنما هو إنسان بقدرته على جلب منافعه ودفع مضاره بنفسه والسعي في ذلك واحتمال العمل والمشاق، والمترف لا يقدر علي مباشرة حاجته والقيام بما يتطلب إمَّا عجزاً لما حصل له من الدعة أو ترفُّعاً لما حصل له من المَرءبى في النعيم والترف وكلا الأمرين ذميم" ص 374ويضيف عن الغارق في الرفاهية والترف: "ثم هو فاسد في طرق الحصول على المال ليستمر في حصول الترف الذي اعتاده ولم يعد يصبر عنه، وهو فاسد في قدرته على العمل الجاد المنتج للمال فيفسد في خلقه ودينه وتفسد إنسانيته ويصير مسخاً على الحقيقة.."

(الابتعاث للدراسة)

وكان يسمى في عصر ابن خلدون الرحلة في طلب العلوم وهو يؤيد ذلك بقوة ويرى فيه تبحراً في العلوم وتوسعاً في الآفاق واكتساب طرق جديدة في تحصيل العلم والمعرفة بأحوال البشر، وهذا - يقول - يفيد طالب العلم بتمييز المصطلحات بما يراه من اختلاف الطرق في كسب العلم فتنهض قواه إلى الرسوخ والاستحكام في المكان وتصحح معارفه وتميزها مع تقوية ملكته بالمباشرة وتعدد المعلمين والعلماء (وهذا لمن يسر الله عليه طرق العلم والهداية، فالرحلة لا بُدَّ منها في طلب العلم لاكتساب الفوائد والكمال بلقاء المشايخ ومباشرة الرجال.." ص

541.(تقليد المغلوب للغالب)

يرى ابن خلدون "ص147" أن المغلوب مولَّعٌ أبداً بالاقتداء بالغالب في أحواله وعاداته وشعاره وزيه، ويضيف: "والسبب في ذلك أنَّ النفس أبداً تعتقد الكمال في مَنء غلبها وانقادت إليه إما لما وَقَرَ عندها من تعظيمه، أو لما تُغالط به عقولها من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي وإنما هو لكمال الغالب، فإذا غالطت بذلك واتَّصل لها اعتقاداً انتحلت جميع عادات الغالب وتشبهت به وذلك هو الاقتداء.. أو لما تراه من أنَّ غُلّبَ الغالب لها ليس بقوته وبأسه وإنما هو بأسلوب حياته، ولذلك ترى المغلوب يتشبَّه أبداً بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه وعوائده وسائر أحواله، وانظر إلى الأطفال مع آبائهم كيف يتشبهون بهم..