أسس التربية ثابتة لا تتغير ولكنها تحاط بظروف متغيرة تتطلب التكيف مع المتغيرات والمؤثرات المجتمعية، المشاركون خارج نطاق الأسرة كثيرون في موضوع التربية وبناء شخصية الإنسان وأبرزهم المدرسة، ومؤسسات المجتمع المختلفة وخاصة المؤسسات الإعلامية.

التوازن الذي نتحدث عنه في هذا المقال يشتمل على عدة جوانب منها التوازن بين العاطفة والعقل، والتوازن في الاهتمام بين الحب والمسؤولية، والتوازن بين الثقة والحرية.

تعاني بعض الأسر من فجوة بين الوالدين وبين أبنائهم وبناتهم ومن مؤشراتها ضعف مشاركة الأبناء والبنات في مسؤوليات الأسرة، قد يتبادر إلى الذهن أن المقصود هنا ينحصر في المشاركة في المهام المنزلية واحتياجات الأسرة، وهذا جزء من الموضوع، لكن المشاركة المفقودة تشمل ما سبق إضافة إلى المشاركة التربوية والفكرية والتفاعل العاطفي والتواصل.

تلك ملاحظة تستحق الدراسة ولها مقدماتها الاجتماعية والمادية والتربوية والنتائج التي يمكن ملاحظتها في سلوكيات تنحو نحو الأنانية والتركيز على الذات والاهتمام بالعلاقات خارج نطاق الأسرة.

لا شك أن ظروف الأسرة إذا كانت جيدة فهي في الغالب توفر خدمة العاملة المنزلية والسائق، وهذا وضع له دور في نمو الاتكالية منذ الصغر. حين يتعود الطفل على الاعتماد على الآخرين فالأرجح هو أن يستمر معه هذا السلوك، الجانب الآخر في الموضوع هو العلاقة العاطفية داخل الأسرة التي تجعل الوالدين بدافع الحب يقومان بكل المسؤوليات وتوفير كافة الاحتياجات دون إعطاء فرصة للأطفال للتعود على المشاركة والتعلم من هذه المشاركة، هذا الحب الذي قد يصل في بعض الحالات إلى مستوى الدلال له آثار سلبية في بناء شخصية الطفل ومسيرته في الحياة العملية وربما في الحياة الزوجية.

يكتشف بعض الآباء والأمهات متأخرين هذا الخطأ التربوي حين يتفاجؤون بعدم حماس الأبناء للمشاركة وعدم الرغبة الصادقة في التعاون حتى حين يطلب منهم ذلك، هنا يوجه الأب اللوم لنفسه، وتفعل الأم نفس الشيء. الأب الذي كان يصطحب الأطفال معه للسوق أو للمزرعة، يفتح له نوافذ التعلم، ويعوده منذ الصغر على المشاركة. هذا الأب هو الآن الذي يفتخر بأنه يوفر كل شيء لأبنائه ويقوم بكل شيء، وقد يكون هو صاحب القرار في كل الأمور بما فيها الأمور التي تخص الأبناء!صحيح أن الأب مسؤول عن توفير احتياجات الأسرة لكن البعض يبالغ في ذلك لأن لديه القدرة المادية معتقدا أن هذه الأشياء المادية هي تعبير عن الحب وأنها تعفيه من المسؤولية الأهم وهي التربية، هنا تبرز أهمية التوازن، وهنا يظهر سؤال التوازن التربوي: ما المسؤوليات التربوية؟ وكيف يتحقق التوازن بين توفير الاحتياجات المادية وبين الاحتياجات التربوية؟

لكي نتفهم الاحتياجات التربوية من المهم التذكير بأن احتياجات الطفل المعنوية أهم من الاحتياجات الحسية.

الطفل بحاجة إلى الاهتمام والثقة بقدراته وتشجيعه على تنميتها، بيئة الأسرة التي تسود فيها الشفافية والصداقة والثقة هي بيئة تختفي فيها الازدواجية والممارسات غير المرغوبة مثل الكذب، والمثالية المصطنعة.

حين نتحدث عن المتغيرات التي تؤثر على أساليب التربية أو تجعل التربية أمام تحديات جديدة، فهذا ما يجعل التوازن التربوي مطلبا مهما ومسؤولية جسيمة، التوازن الذي يجمع بين إكساب الثقة بالنفس واحترام الكبار، التوازن الذي يجمع بين تطوير الذات وعدم الانفصال عن المجتمع، التوازن الذي يجمع بين الحرية والمحافظة على القيم، التوازن الذي يوفر الاحتياجات المادية والمعنوية ويعزز مبادئ المشاركة والتعاون والعطاء، التوازن الذي ينتقد السلوك الخاطئ وليس مرتكب الخطأ، التوازن في تنمية التفكير المستقل، التوازن بين الانتماء للأسرة وبين الانتماء للمجتمع وخدمة المجتمع.