يا له من عنوان.
يخطئ الموتى عنوان الديوان الأخير للشاعر الكبير إبراهيم الحسين، يا له من عنوان، ويا له من ديوان.
المرة الأولى التي سمعت فيها اسم إبراهيم الحسين كانت من خلال الناقد فايز أبا. وفايز لمن لا يعرفه ناقد كبير كانت آراؤه وإسهاماته في الساحة الثقافية لها أثر وتقدير كبير، غاب عن الساحة منذ عشرين عاماً بسبب المرض، عرّفني فايز على قصائد إبراهيم الحسين من وقت مبكر، قال؛ هذا شاعر فذ. ومنذ ذلك الحين وكلما صادفتني قصيدة للحسين، أتذكر كلام أبا، وفي كل مرة أقرأ له، أتأكد من المقولة.
يخطئ الموتى حين تقرؤه، يراودك ذلك الشعور بالحزن، الشجن، اللوعة، الشهقة، الغصة، الحنين، الألم، كل تلك المشاعر التي تنتابك حين يكون الغياب حاضراً طول الوقت، لا يترك لك لحظة تلتقط فيها أنفاسك وتنسى.
يرثي في كامل الكتاب والدته، والإهداء لها، وكل القصائد عتاب، أليس هذا ما تود أن تقوله للغائب الذي صدمك وجرحك غيابه، لماذا تركتني، ذهابك خطأ.
أعادت لي القصائد هذا الشعور بالفقد، وهو في الحقيقة، لم يغب كي يعود، لكنني فهمت الشعور الذي انتابني حين رحل أبي، كنت غاضبة منه، لأنه تركني، أردت أن أعاتبه، لأن رحيله كان خطأ، لم أستطع، لا يمكن، لا يمكنك أن تعاتب أباك الذي مات لأنه مات، فقط يمكن لشاعر أن يفسر مشاعرك، يرتبها، يخرجها للعلن ويقول، يخطئ الموتى.
تعود مع الديوان كل مشاعر الحزن التي تواريها، تبكي، تعود للبكاء بحرقة، لا تهم عدد السنوات، أكثر من ثلاثين عاماً لا تكفي كي ينسى المرء فقد أبيه، يعود بك إبراهيم الحسين للحظات الفقد الأولى، ومع كل قصيدة، يزيح عنك الخجل من التعبير عما شعرت به، يسمح لك بكامل بهاء الشعر، أن تعاتب الغائب، وتقول له، لقد أخطأت برحيلك.
لا تقرأ الخطأ بشكل فج، لا تقرأ العتاب وكأنه تجديف، هو الحب، الحب الخالص، الحب الذي يمنحك الحق أن تقول لمن فقدت، لماذا فعلت ذلك، وفقط يمكن لشاعر بحجم إبراهيم الحسين أن يفعل ذلك، وأن يمنحنا القدرة على التذلل للمحبوب الذي فقدناه بهذه الطريقة. هو الشعر. الشعر الذي نستطيع من خلاله أن نقول ما لا يمكننا قوله بطريقة أخرى.
"لكن شيئًا من قوارير عطورهم يقلقك بحثه الحثيث عنهم.. شيئًا من دخان بخورهم الذي لا يستقر يجعلك تفيض وتفيض: إن الموتى أخطأوا واخطأوا وأخطأوا"
أريد أن أقتبس القصائد كلها، اللوعة كلها، لكنها هناك، في الديوان، مع لوعتي وشهقاتي.
التعليقات