أما عن ديننا فنحن نوقن بما لا شك فيه، أن الحب أساس الدين وسبيل الجنة، لا أعني حب الله وحب رسوله وحب دينه، فهذا مما لا يصح الإسلام إلا به، بل أعني حب بعضنا بعض اجتماعيا، حتى يحب أحدنا لأخيه ما يحبه لنفسه، وفي الحديث "لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا" فنفى الإيمان المجرد عن حب المشتركين فيه اجتماعيا..

لم تكن تلك الروايات والأدبيات عن الحب مجرد كلمات وأحرف كتبت فدونها التاريخ، بل كانت أسطرا جرى بها القلم بتقدير الله، لتحفظ لنا تلك الروايات كيف كانت مشاعر البشر قبل كذا وكذا من الزمان، وهل نحن اليوم مقارنة بما دونوه قد ارتقينا إلى الأفضل، أم هناك تأخر في المشاعر ينحو بها إلى الجفاف؟ وهل مشاعر أهل العصر وَشَلٌ من بحر كان، أم بحر تجمع من ينابيع قديمة؟

أما عن ديننا فنحن نوقن بما لا شك فيه، أن الحب أساس الدين وسبيل الجنة، لا أعني حب الله وحب رسوله وحب دينه، فهذا مما لا يصح الإسلام إلا به، بل أعني حب بعضنا بعض اجتماعيا، حتى يحب أحدنا لأخيه ما يحبه لنفسه، وفي الحديث "لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا" فنفى الإيمان المجرد عن حب المشتركين فيه اجتماعيا، وفي التنزيل عن حب الأنصار للمهاجرين «يحبون من هاجر إليهم، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة» وهذه مراتب عالية من المحبة، وقد جردها بعض من تكلم فيها عن حقيقتها، حيث صورت على أنها مجرد طقوس تقاس بالأفعال الظاهرة، وتنقطع باختفائها، وهذا جعل من المراد الاجتماعي فارغًا من مضمونه الشرعي الذي يقوي الطبيعة الإنسانية في البشر من حب بعضهم بعضًا، وهو فيما أخبرنا كتابنا العزيز طبيعة أهل الجنة «ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانًا على سرر متقابلين» وكل ذلك الحب كان قد أثمر الحياة الاجتماعية المليئة بالصور الإنسانية من التعاون والتراحم والتكافل والتعاطف.

ويبقى السؤال، كيف إذا تجرد هذا الحب عن ذلك الإيمان؟ الجواب قد ضرب الله لنا في القرآن مثلاً«إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء» والمتأمل في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، يجد من ثمرة حب أبي طالب لابن أخيه -صلى الله عليه وسلم- تلك المواقف التي كانت تشكل ركائز انطلاق وقوة لدعوة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن ثمرة حب النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمه، ملازمته له وبذل نصحه وحرصه على هدايته، ولكن المقصود هو مسمى الحب بينهما، وقد سماه العلماء الحب الطبيعي، وهذا هو ما نتكلم فيه ونحاول إيجاد ضوابط لمقياسه وينابيع لإحيائه، فالناس بحاجة ماسة للحب الطبيعي في المجتمعات المختلفة، بل والمجتمعات الواحدة المتفاوتة في مراتب الإيمان والطاعات، بل في الأسرة الواحدة التي تتشعب منطلقاتها في الحياة، فإن لم نحيي جذور الحب الطبيعي المجتمعي وننميها بكل الوسائل والطرق تفككت الأسر، وتصحرت المجتمعات من الحب

والعواطف المتوارثة، وليس هذا فحسب، بل إن هناك نوعًا آخر من الحب، يراد له أن يختفي ويلبس الطقوس التي تجرده عن مسماه، ذلك هو حب "الارتباط" بين الذكر والأنثى ليشكلا نواة أسرة مترابطة على قاعدة قوية ومتينة من الحب، وهذا النوع من الحب تتجاذبه العادات وطقوس التدين وانفلات الحاضر، ومن أراد إرجاعه لطبيعته يتحتم عليه خوض المعارك الفكرية من ثلاث جبهات، بينما النبي -صلى الله عليه وسلم- وقف شافعًا رجاء دوام هذا الحب وبقائه، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس في قصة مغيث وبريرة، قال ابن عباس رضي الله عنهما كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعباس: يا عباس، ألا تعجب من حب مغيث بريرة ومن بغض بريرة مغيثا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو راجعتِه؟ قالت: يا رسول الله، تأمرني؟ قال: إنما أنا أشفع. قالت: لا حاجة لي فيه. هذا، والله من وراء القصد.