الأمر يتطلب صناعة الفرصة للتعلم والتجربة والوثوق في المنتج والرفع من جودته من خلال إيجاد بيئة معمارية محلية تتطور باستمرار من خلال التجارب التي تتاح لها..
دعيت قبل أيام قليلة لحضور حفل توزيع جائزة بلعرب بن هيثم في سلطنة عمان، وهي في دورتها الثانية، والأهم أنها مخصصة للمعماريين العمانيين الشباب، حيث يطرح مشروع له صبغة ثقافية أو اقتصادية ويتم التنافس عليه للحصول على الجائزة. هذه الدورة خصصت لمتحف بحري في مدينة صور، قلعة السفن العمانية، وتأهل عشرة مصممين شباب (فرق ومنفردين) إلى جولتها النهائية، وتم اختيار ثلاثة فائزين من بينهم، أعلن عنهم في حفل أقيم يوم الثلاثاء الفائت. الأمر الجدير بالذكر ليس وجود مسابقة معمارية رفيعة المستوى بل في كونها مخصصة للشباب، ما يعني أنها تسعى إلى بناء جيل من المعماريين سيكونون سفراء للعمارة العمانية، بل ويمكن أن يصنعوا ما يمكن أن نسميه عمارة عمانية معاصرة.
يبدو أن التوجه إلى صناعة نجوم في العمارة العمانية لم يقتصر على تنظيم هذه الجائزة الرصينة فقط، التي يتم من خلالها تنفيذ المشروع الفائز بالمركز الأول، بل إن جناح عمان في "إكسبو" دائما يطرح كمسابقة بين المعماريين العمانيين الشباب، وقد تم الإعلان عن الفائز بتصميم جناح عمان في إكسبو 2025 في "أوساكا" في اليابان، حيث فاز معماري عماني شاب. ولعلي أذكر أنني زرت جناح عمان في دبي 2020 وقد صممته معمارية عمانية شابة حاولت أن تربط تاريخ عمان العريق بنظرة السلطنة للمستقبل. في اعتقادي أن صناعة جيل من نجوم العمارة والنجوم في كل الفنون والعلوم يتطلب صبراً وخطة طويلة المدى وعملاً دؤوباً لصقل مهارات الشباب، وقبل كل شيء إعطاءهم الثقة وفتح مجال التنافس أمامهم. ويبدو أن سلطنة عمان من خلال مؤسساتها الثقافية والتنموية تعي أن الشباب العماني هم المستقبل، لذلك هم يعملون على صناعة الفرص أمامهم لخوض التجارب وبناء الخبرة.
إحدى المسائل التي توقفت عندها وأنا أشاهد مراسم تتويج الفائزين هي المفاضلة بين صناعة عمارة آنية دون صنع جيل من المعماريين أو العمل على صنع معماريين يمكن أن يصبحوا نجوماً وهم من يصنع العمارة المتميزة في المستقبل. ربما هذه المفاضلة تقودنا للتضحية قليلاً بالعمارة، وهي تضحية مؤقتة، في سبيل الصبر والتأني من أجل خلق جيل من المعماريين. الأمر يتطلب صناعة الفرصة للتعلم والتجربة والوثوق في المنتج والرفع من جودته من خلال إيجاد بيئة معمارية محلية تتطور باستمرار من خلال التجارب التي تتاح لها. بالطبع إن هذا الأمر ينطبق على كل الفنون فإما أن نفكر في الحصول على منتج آني وربما يتفوق على المنتج المحلي أو صناعة جيل من المعماريين سيكونون قادرين على منافسة المنتج العالمي في فترة وجيزة. خيار يحدد إلى درجة كبيرة كيف ننظر للمستقبل.
ذكر لي أحد المسؤولين العمانيين أن هذه الجائزة ساعدتهم على تقييم المؤسسات التعليمية التي تخرّج منها المتنافسون على الجائزة، يقول: صرنا نعرف من هي الجامعة التي تُعلّم بشكل صحيح، ووجدنا أن الوظائف الحكومية وحتى القطاع الخاص صاروا يتنافسون على خريجيها. من المتفق عليه أن مؤشرات جودة التعليم مرتبطة بجودة الخريجين وليس بما يسمى التصنيف الأكاديمي ومع ذلك لا بأس بالتصنيف إذا ما اتفق مع جودة المخرجات. ما لفت انتباهي في ملاحظة المسؤول العماني هو الإصرار على بناء الشباب واستقطاب المميزين من خلال الاختبار والكفاءة، فالجائزة هي أحد اختبارات الكفاءة التي لا تخطئ في فرز من يتميزون بمهارات خاصة عن غيرهم، ولأن الهدف هو خلق جيل يمكن الاعتماد عليه فلا مجال هنا إلا الركون إلى المميزين وإعدادهم للمستقبل.
تجربتي مع عمان تمتد لأكثر من عقدين عندما تم اختياري كأحد المحكمين لجائزة السلطان قابوس للعمارة في دورتها الأولى في بداية الألفية، في تلك الفترة لم يكن تخصص العمارة منتشراً في عمان، وكثير من المعماريين العمانيين تعلموا في الخارج، وبعضهم زملاء لنا في الجامعات السعودية. اليوم يوجد جيل من المعماريين الشباب الذين يقودون نهضة فكرية ومهنية معمارية في عمان أجزم أنها ستصنع نخبة من نجوم العمارة العمانيين على مستوى المنطقة العربية وربما العالم.
التعليقات