الفكرة الأساسية في خطابات التحفيز وفي كثير من أطروحات إدارة الذات تدور حول مقاومة الاستسلام من قبيل: لا تستسلم (Don`t give up)، واصل الإنجاز، ثابر لتحقق أهدافك، أحلامك ممكنة.. وهذا التحفيز يفيد -أحيانا- إذا خلا من المبالغة والابتذال، ولكن ماذا لو كان الخيار الأمثل هو الاستسلام؟
الخطر ليس في الطموح العالي، ولا في الشعور المنطقي بالذنب لأجل التقصير، وإنما في توهّم السعي مع فقدان الإمكانية، أو في ارتفاع التكلفة الناجمة عن هذا الطموح إلى حدّ تدمير الذات وإفسادها، إما ماديًا أو معنويًا. وقد توصلت بعض الدراسات الحديثة إلى أن وجود أهداف شخصية مع فقدان الشعور بتحقّقها، من السمات المميزة لمن وقعوا في ممارسات انتحارية. وقد تظهر هذه التكلفة في صورة يأس مدمّر، فاليأس هو الحالة التي ينخرط فيها الفرد في السعي نحو أهدافه، مع شعوره باستحالة تحقيقها، وعدم قدرته على التخلّي عنها، والذي قد يعني فشل الفرد في بناء أهداف أخرى، ربما تكون أجدر بالعناء.
لاحظت بعض الدراسات النفسية أن الكثير من نوبات الاكتئاب يسبقها فشل في قبول الخسارة في منافسة ما على المكانة، والسعي إلى الهدف الطموح وتحقيق الحلم يتضمن بحثًا عن المكانة بالمعنى العام بلا شك، وترى هذه الدراسات أن للاكتئاب حينها دورًا تكيفيا مفيدًا، وهو إشعار الفرد أن كلفة المكابدة تجاوزت الحدّ المعقول، إما لاستحالة بلوغ الهدف، أو عدم ملاءمته للفرد لأي سبب، ومن ثمّ فدور الاكتئاب هو تثبيط الفرد عن مواصلة مكابدة عديمة الفائدة، وحثّه على قبول الخسارة المؤكدة، والاستسلام الطوعي، ولوحظ أن العديد من المرضى يتعافون حين يتخلّون عن منافسة حول المكانة التي يستحيل الفوز بها.
الطبيب النفسي راندولف نيس في كتابه (أسباب وجيهة للمشاعر السيئة Good Reasons for Bad Feelings) يشير إلى تجربته الشخصية مع كثير من حالات الاكتئاب التي عالجها، وتجربته أيضًا في تدريس وتأهيل الأطباء لعلاجها حيث يقول: "توجيه السؤال التالي إلى مرضى الاكتئاب مفيد للغاية؛ وهو (هل هناك شيء مهم جدًا تحاول القيام به؛ ولكنك عاجز عن النجاح فيه، ولا تستطيع الاستسلام؟)". وتميّز المحللة النفسية السويدية إيمي غوت في كتابها (الاكتئاب المنتج وغير المنتج) بين نوعين من الاكتئاب كما هو واضح في عنوان كتابها، وهي ترى أن "الانسحاب الاكتئابي والتفكير المفرط من الممكن أن يحسّنا التأقلم حين تتطلب الحياة تغييرًا كبيرًا"، لأن التغيير الكبير في الحياة (وفاة، هجرة، بطالة، فشل دراسي، انفصال عاطفي…الخ) يتطلّب تباطؤًا في الفعل والقول، وتفكيرًا مليًّا في طبيعة التغيير ومآلاته، وحينها يكون المزاج المنخفض (low mood) والمتوتر والكئيب محفّزًا للفرد على البحث عن استراتيجيات جديدة. وهذا هو (الاكتئاب المنتج) بحسب المؤلفة، أما الاكتئاب غير المنتج فهو الذي يحبط النفس، ويغرق الفرد في التعاسة والبؤس المحض.
حين يقرر المرء التخلّي عن طموح معين، ويفقد الأمل في بلوغه غاية ما؛ تهدأ نفسه، ويطمئن باله، ويتحسّن مزاجه، فاليأس -كما قالوا- إحدى الراحتين، والمعنى أن راحة الإنسان تكون إما ببلوغه غايته، أو باليأس منها، وما سوى ذلك فعذابٌ وتعب. وليس في كل ما سبق دعوة للاستسلام الكلي، ولا للقنوط واليأس، بل غاية القصد هو التأكيد على التوازن بين الإمكانات والطموح، وأن الحلم الذي يتعس صاحبه، ويصيبه بالآلام النفسية؛ لا يستحق العناء، وأن (الاستسلام) الجزئي قد يكون الخيار الأمثل أحيانًا على الأقل، وأن تغيير الطموح أو خفضه، وتجاوز بعض الأهداف إلى غيرها، والرضا باستحالة بعض الغايات، والتنازل الطوعي عن السعي إليها؛ يسهم في سواء الفرد النفسي وصحته العقلية واتزانه العام.
التعليقات