لقد جاءت اليابان إلى العالم على وقع هذه الفكرة والتي تعود إلى الدكتور إدورد ديمنج الخبير في مجال رفع نوعية الأداء فقد جاء إلى اليابان لاستعادة القاعدة الصناعية التي كانت قد دمرتها الحرب وذلك بدعوة من اتحاد العلماء اليابانيين..
في التسعينيات الميلادية كنت على صلة بالدراسات الآسيوية وبالذات اليابان والصين والهند وذلك من خلال دراستي في حقل الدراسات الآسيوية.
واليوم ما بين حين وآخر أحاول أن أعود إلى تلك الدراسات الآسيوية دارساً وباحثاً.
ذلك أن تتلمذنا العلمي على الغرب حجب عنا تنويع مصادرنا الفكرية والثقافية وبالذات في دائرة الدراسات والبحوث.
وقد آن الأوان أن نفتح أفقًا معرفيًا على كنوز الحضارات والثقافات الأخرى في اتجاه فكرة الانفتاح الواعي على أدوار التاريخ البشري واكتشاف كوامن الوجود الإنساني لكي نكون على علاقة علمية ومعرفية بمكتسبات الحضارات.
فإذا ما نظرنا حولنا وجدنا تبدلًا متسارعاً في المجتمعات الإنسانية فالتغيير السريع المتلاحق يجتاح المجتمعات الإنسانية.
فالمجتمع الإنساني آخذ في التقدم يضيف كل يوم جديدًا إلى رصيده من العلم والمعرفة في حركة تواصل عالمي يجمع الأشتات الإنسانية في دورة من التعارف الحضاري فنقل الأفكار والآراء والمشاعر بأدوات التواصل المستحدثة بين المجتمعات والحضارات صار واقعًا اليوم فلم يعد العالم في هذا العصر سهل الانعزال بل صار شبكة حية تستدعي أدنا وخزة في جزء منها استجابة في جزء آخر.
فالمجتمعات البشرية وما أفرزته من حضارات هي فتوحات إنسانية ذلك أنه من خصائص هذا العصر أن الأفكار لاتبقى حصراً على مواطنها الأصلية التي تظهر فيها بل تخترق حدود مواطنها وتسري لغيرها فتنتشر ويكون مدى انتشارها تابعًا لقوة نفاذها من جهة واستعداد غيرها لتقبلها من جهة أخرى.
والواقع أن التقدم التقني قد قوى جميع وسائل التواصل بين المجتمعات.
وعندما تتواصل المجتمعات يؤثر بعضها في بعض، وهذا التواصل لا يؤدي إلى تأثير من جانب واحد فحسب بل إلى تفاعل وتبادل من الجوانب المختلفة.
إذ كلما كانت المجتمعات متواصلة متقاربة كانت التبادل بينها أشمل وأكثر تنوعا لأنه لا يقتصر على الأشياء المادية فحسب، بل يتعداها إلى الحقول الفكرية والثقافية والعلمية، فالمجتمع الواثق بذاته لا يخشى الانفتاح على الأقوام الأخرى ولا الأفكار والتقنيات الجديدة.
ومن خلال دراستي لقارة آسيا أدركت مدى قربنا تاريخيًا وجغرافيًا وثقافيًا وحضاريا بآسيا، والتي ربما لا يشبهها في القرب قارة أخرى، مما يؤكد أهمية التواصل الثقافي والحضاري مع هذه القارة.
فإذا ما نظرنا مثلًا إلى اليابان وتوقفنا عند روح تطورها، ودخولها حضارة العصر، نجد أن نظرية Kaizen كايزن استوطنت الذهنية اليابانية في وقت مبكر هذه النظرية تعرف عند اليابانيين بالتحسين المستمر أو التغيير إلى الأفضل ورفع نوعية الأداء.
هذه الفكرة تأخذ أهمية كبيرة في اليابان تفوق كل فكرة أخرى وهي فكرة تقوم على حياة الإنتاج بكل أشكاله وتنوعاته.
لقد جاءت اليابان إلى العالم على وقع هذه الفكرة والتي تعود إلى الدكتور إدورد ديمنج الخبير في مجال رفع نوعية الأداء فقد جاء إلى اليابان لاستعادة القاعدة الصناعية التي كانت قد دمرتها الحرب وذلك بدعوة من اتحاد العلماء اليابانيين.
واليوم يعد الدكتور ديمنج أبو المعجزة اليابانية.
لنتأمل هذه القصة الملهمة من منظور فهمنا لنظرية كايزن ففي عام 1890م وبعد محاولات وتجارب تمكن ساكيشي تويودا من صناعة آلة نسيج تحولت فيما بعد إلى مصنع حياكة نسيج.. وما إن بدأ المصنع طرأت عليه بعض الظروف الاقتصادية التي اضطرته إلى التوقف إلا أن ساكيشي تويودا لم يتوقف فقد أراد تجريب محاولات وتجارب أخرى.
ففي عام 1910مم غادر ساكيشي اليابان متوجها إلى الولايات المتحدة الأميركية وزار عدداً من المصانع الأميركية ومن بينها مصانع السيارات في ديترويت وقد جذبت صناعة السيارات انتباهه إلا أنه لم يتخل عن فكرة صناعة حياكة النسيج.
وعندما عاد إلى اليابان قام بدراسات وأبحاث موسعة تمكن من خلالها في عام 1924م من تطوير أول محرك لآلة أوتوماتيكية لحياكة النسيج وضعته في صفوف المخترعين الأوائل وأطلق عليه حينذاك مخترع آلة اليابان وقد حصل ساكيشي جراء اختراعه على مجموعة من الأوسمة والجوائز والألقاب العالمية.
وفي عام 1929م قام ساكيشي ببيع حقوق اختراع آلة النسيج الأوتوماتيكية إلى شركة بريطانية وأعطى قيمة براءة الاختراع ابنه كيشيروا والذي أنشأ بموجبها مركز أبحاث موجه لإنتاج أول سيارة يابانية. وفي عام 1930م توفي ساكيشي وواصل كيشيروا حلم والده وكان كيشيروا يتميز بالانضباط الذاتي والطموح اللا محدود وبعد سنوات من الدراسات والأبحاث والعمل الجاد والكفاح المتواصل تمكن من إنتاج أول سيارة تويوتا.. وفي عام 1936م عرضت أول سيارة يابانية بالكامل في معرض للسيارات باليابان ومنذ ذلك اليوم أسس كيشيروا مصنعاً لإنتاج السيارات.
وعلى إثر ذلك اعتبر كيشيروا أحد العشرة الأوائل الذين تسيدوا صناعة السيارات في اليابان. وعندما تكامل المصنع وتأهب للإنتاج أجري في عام 1936 م استبيان لاختيار الاسم المناسب للشركة فجاءت نتائج الاستبيان باختيار اسم تويوتا بدل تويودا.
وفي عام 1938م تأسست شركة تويوتا موتورز ومع بدايات الخمسينات الميلادية انتقلت تويوتا من المحلية اليابانية إلى العالمية وأصبحت تويوتا أكبر مصنع لإنتاج السيارات في اليابان وبعد سنوات توسعت خطوط إنتاجها على مستوى العالم ليصل إلى 42 مصنعا منتشرة في أكثر من 25 دولة حول العالم.
الإيجابي في هذه القصة أنه بفضل نظرية كايزن أن شابا تابع فكرته بقدر من الجدية والابتكار فإذا هي اختراع مكنه من ترجمته إلى شكل مادي عملي وهذا في النهاية هو خلاصة النظرية.
التعليقات