نجح الحراك السعودي بامتياز، باعادة التوازن الجيوستراتيجي للمنطقة من خلال حشد القوى الخليجية والعربية في الرياض وتناغمها مع الشريك الموثوق والقوة الاقتصادية العالمية المتعاظمة الصين، وجذبها اقتصاديا واستثماريا وتجاريا، وفتح نوافد العلاقة الجيوستراتيجية على مصراعيها، إيذانا بحقبة سعودية خليجية، عربية بشراكة صينية، بعيدة عن الإملاءات وهيمنة القوى العالمية.
ووضع لقاء سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان؛ مع الرئيس الصيني شي واللقاءات المكثفة التي تم إجراؤها أمس في الرياض، مسار الشراكة المستقبلية بين البلدين، على المدى الطويل.
وأعطت مذكرات التفاهم المتعددة الهامة التي تم التوقيع عليها على هامش الزيارة، زخما لهذه الشراكة خصوصا مذكرة التفاهم المتعلقة بمواءمة مبادرة الطريق والحزام مع رؤية 2030، والتي تعتبر بكل المعايير تغيير في قواعد اللعبة، بحسب وصف المراقبين الصينيين الذين أكدوا أن الاقتصاد هو عصب السياسة وإذا عززت الشراكة الاقتصادية، فإن أبواب السياسة ستفتح تلقائيا، ولهذا حققت جملة اللقاءات المكثفة، نتائج غاية في الأهمية من حيث تفعيل الشراكة الجيو-ستراتيجية والاقتصادية والنفطية كونها خارطة طريق لشراكة متعددة الجوانب.
وتولي حكومتا المملكة والصين اهتماماً بالغاً لتعزيز المواءمة بين مبادرة "الحزام والطريق" و"رؤية المملكة 2030"، وتطوير التعاون بين الجانبين، وأطلقت الصين المبادرة عام 2015 بقصد تحسين الترابط والتعاون على نطاق واسع يمتد عبر القارات، والتحرك للدفع بالتشارك في بناء الحزام الاقتصادي لطريق الحرير للقرن الحادي والعشرين.
رسائل للعالم
وأرسلت المملكة من خلال استضافتها للقمم الثلاثة السعودية والخليجية والعربية عدة رسائل استراتيجية، للقوى العالمية، والرسالة الأولى مفادها، أن المملكة دولة مستقلة بقرارها، وسيادتها وقيمها النبيلة، والرسالة الثانية هي أن دول الخليج موحدة، وعلى مسافة واحدة مع بعضها البعض، وحريصة على مد جسور الشراكة مع الصين كشريك وثيق نزيه..
انتصار حراك محمد بن سلمان
أما الرسالة الثالثة هي أن هناك واقعا عربيا جديدا نهضويا، حريص على التعامل مع شريك وحليف موثوق فيه لمصلحة تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة بلا تمييز وتفضيل ووفق قواعد المرجعيات الدولية، وتمثل انتصارا دبلوماسيا كاسحا وضخما للدبلوماسية التفاعلية التي قادها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان على المستوى الإقليمي والعالمي بهدوء خلال السنوات الماضية نجح خلالها من تنويع العلاقات شمالا وجنوبا وغربا وشرقا ووضع اسم المملكة على خارطة المشهد العالمي، فالصين الطامحة للتربع على عرش أكبر اقتصاد عالمي في عام 2030، بحاجة إلى شراكة استراتيجية مع المملكة المتموضعة في قلب العالم، والمتحكمة في أهم طرق ومعابر التجارة العالمية بين الشرق الأقصى وأوروبا.
شي: دفع العلاقات
وقال شي لدى وصوله إلى الرياض إنه سيعمل مع مجلس التعاون الخليجي والقادة العرب الآخرين “لدفع العلاقات الصينية العربية والعلاقات الصينية الخليجية إلى مستوى جديد.
كما أشار الرئيس الصيني إلى أن بلاده تربطها مع السعودية "علاقة وثيقة من الصداقة والشراكة والأخوة على مدى السنوات الـ32 التي مضت على إقامة العلاقات الدبلوماسية بينهما ويحافظ الجانبان على التواصل والتنسيق الوثيقين في الشؤون الدولية والإقليمية.
حماية المصالح
وقال خبراء عرب إن الأمن الإقليمي محور مهم في القمم الثلاث خصوصا أن هناك فراغا في المنطقة يحتاج لوجود قوى محايدة مثل الصين، التي ستواصل توسيع نطاق شراكاتها بما يخدم مصالحها الاقتصادية والأمنية، خصوصا أن حرص المملكة على تنمية العلاقات الثنائية مع الجانب الصيني في سياق توجهها الاستراتيجي لتعزيز علاقاتها وشراكاتها الثنائية مع جميع الدول والقوى الدولية المؤثرة، وإقامة علاقات متوازنة معها تخدم أهداف المملكة، وتسهم في حماية مصالحها. وعكست زيارة الصيني وفق مصادر سعودية تحدثت لـ"الرياض" حرص قيادتي البلدين على تعزيز العلاقات الثنائية، وشراكتهما الإستراتيجية واستثمار إمكاناتهما السياسية والاقتصادية في خدمة مصالحهما المشتركة.
اهتمام إعلامي عالمي
وحظيت زيارة الرئيس الصيني باهتمام في الإعلام العالمي وتصدر التقارير الصفحات الأولى لها ونشرات الأخبار، وقالت صحيفة الغارديان البريطانية إن زيارة الرئيس الصيني تأتي تتويجاً لعقود من التعاون الذي كان قائماً في السابق على مبيعات النفط، والذي تطور ليصبح تجارة ثنائية تقترب قيمتها من 90 مليار دولار سنوياً.
فيما أشارت صحف أخرى أن الزيارة توفر للرياض فرصة ذهبية لعرض قوتها الجاذبة في الشراكة التجارية وحضورها المتنامي كقوة عالمية فاعلة لا يستهان بها. وبكين بالفعل أكبر شريك تجاري للرياض، والسعودية عضو في خطة الصين العالمية "الحزام والطريق".
وعُلّقت الأعلام الصينية في أنحاء الرياض وفي قاعات الاحتفالات حيث جرت مراسم استقبال شي الذي تعتبر ثالث رحلة له إلى الخارج منذ بداية وباء كورونا، وهذا دليل على حجم قوة العلاقة بين الطرفين ونوايا تطويرها.
أكبر نشاط دبلوماسي
وقالت وزارة الخارجية الصينية أمس إن البرنامج يمثل "أكبر نشاط دبلوماسي على نطاق واسع بين الصين والعالم العربي منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية".
وتتطلع الصين للاستفادة بموارد الطاقة والقوة التنافسية للاستثمار الملياري داخل المملكة في المشاريع الكبرى والموارد التي لا غنى للصين عنها لتحريك عجلة اقتصادها الضخم. والصين هي الشريك التجاري الأكبر للمملكة العربية السعودية، وباتت اليوم أكبر مشتر للنفط السعودي، حسب سمو وزير الطاقة الأمير عبدالعزيز بن سلمان، ومثلها مثل الولايات المتحدة تولي أهمية كبيرة للتدفق الحر للنفط، وإن اللجنة الفرعية لمبادرة الحزام والطريق والاستثمارات الكبرى والطاقة تسعى إلى تعزيز المواءمة بين رؤيتي السعودية والصين للمستقبل، خصوصاً في مجال الطاقة، الذي يشمل العديد من أوجه التعاون.
وأكد سمو وزير الطاقة أن العلاقات تشهد "نقلة نوعية"، مؤكدا أن المملكة ستظل "شريك الصين الموثوق به والمعول عليه" في مجال الطاقة وغيره.
وتحدث عن "سعي البلدين إلى تعزيز التعاون في سلاسل إمدادات قطاع الطاقة، عن طريق إنشاء مركز إقليمي في المملكة، للمصانع الصينية، للاستفادة من موقع المملكة المميز بين ثلاث قارات"، من دون تفاصيل إضافية.
تعظيم القوى التنافسية
ومن خلال تبني مثل هذا النهج، تسعى المملكة بتقليل التكاليف وتعظيم فوائد منافسة القوى العظمى، مع تصاعد التنافس بين القوى الكبرى، وجدت الدول الصغيرة والمتوسطة الحجم نفسها بشكل متزايد عرضة لمطالب متنافسة، مثل الطلبات الواردة من الصين لدعم سياساتها.
بالنسبة للعديد من هذه الدول، تحمل هذه الاستراتيجية فوائد أخرى أيضاً، مثل أن تنسج علاقات متحاذية متعددة الأطراف، بدلاً من عدم الانحياز الكامل، من خلال التأثير على عملية صنع القرار لدى القوى العظمى.
استمرارية تدفق النفط
وترغب بكين في استمرار تدفق الطاقة على المدى الطويل، وهو ما ستوفره المملكة، كي لا تتأثر بالتغيرات السياسية العالمية وتجاذبات القوى في معارك الطاقة العالمية، والدخول في شراكات في المشاريع الكبرى والبنية التحتية الضخمة، وخصوصاً في مجال البناء والطرق والجسور والموانئ البحرية، والتوسع في مشروع الحزام والطريق للذي يعتبر تغيير في قواعد اللعبة الجيو-اقتصادية العالمية، فضلا عن تعزيز سمعة المنتجات الصينية في المنطقة العربية، عبر ترويج فكرة "التنمية عالية الجودة" التي طرحها الرئيس الصيني والتي تعني التركيز مستقبلاً على الجودة لا على الكم.
احترام السيادة
على الصعيد السياسي والأمني والعسكري، فستسعى بكين لـترسيخ مبدأ احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وهي السياسة التي تطبقها بكين في تعاملاتها مع الآخرين الى جانب التركيز على الجانب التقني، ولا سيما ما يتعلق منه بالجيل الخامس الذي تسعى بكين لنشره في جميع دول العالم.
أما المملكة، فهي تسعى للتعاون الاستراتيجي مع الصين وتنويع الشراكات، وإدراكاً منها أن مستقبل العالم سيكون في آسيا وأن الصين هي قلب القارة الآسيوية.
وكون بكين كانت شديدة الحذر في الماضي تجاه مشكلات الشرق الأوسط، إلا أن القبول للسياسات الصينية ستجعلها أكثر قربا من الصين خصوصا أن بكين تتبع سياسة خارجية تتسم بالتوازن الدقيق، والتحوط وإدارة المخاطر وعدم التدخل وتطوير علاقاتها الاقتصادية مع الصين مع الحفاظ على العلاقات الاستراتيجية.
القوة القادمة
فبعد استكمال الرئيس الصيني جين بينغ ترتيب بيته الداخلي، وانتخاب الحزب الشيوعي الحاكم له رئيسا للبلاد لولاية ثالثة، عقب تعديل ميثاق الحزب الذي كان لا يسمح بأكثر من ولايتين، استعدت بكين لمرحلة جديدة في تاريخها؛ لزيادة التنسيق في الشأنين السياسي والأمني، وتعزيز أوجه التعاون في الجوانب التجارية والاستثمارية، والطاقة، والثقافة، والتقنية.
تعزيز النفوذ
وفي الماضي كانت مصالح الصين تجارية بحتة، وتركز بالكامل على التجارة، بينما تنظر الآن إلى حضورها وعلاقاتها من خلال منظور استراتيجي. ويعتبر الصينيون أن المنطقة باتت مسرحاً أساسياً لمنافسة القوى العظمى، ولدى بلادهم الإمكانات المادية والتقنية للقيام بذلك.
وفي الوقت الذي تبتعد فيه القوى الكبرى عن الشرق الأوسط تقترب الصين إليها حيث نجحت على هامش القمة السعودية الصينية التوقيع أكثر من 20 اتفاقية أولية بقيمة تتجاوز 110 مليار ريال، إضافة إلى توقيع وثيقة الشراكة الاستراتيجية بين المملكة والصين، وخطة المواءمة بين رؤية المملكة 2030، ومبادرة الحزام والطريق، وإطلاق جائزة الأمير محمد بن سلمان للتعاون الثقافي بين السعودية والصين.
القوة الصناعية
ويأتي التقاء القوة الصناعية الاقتصادية العالمية مع عملاق الطاقة العالمي المملكة، في وقت تسعى المملكة إلى بناء شراكة استراتيجية تدعم التجارة والاستثمار مع الجانب الصيني، وتجعل المملكة الشريك الاستراتيجي الأول الموثوق للصين في المنطقة.
تسير العلاقات السعودية الصينية بخطوات متسارعة جداً، بما يتجاوز التبادل والتعاون التجاري، إلى بناء شراكة تتجاوز الاقتصاد إلى الشراكة الجيوسياسية.
ويمكن القول إن مخرجات القمة السعودية الصينية تتمحور في تعاظم التحالف مع الشريك الموثوق.. ولهذا فإن حراك دبلوماسية الأمير محمد بن سلمان ينتصر.. والعالم ينبهر.
التعليقات