من التبسيط وصف المجتمعات الغربية بأنها مسيحية، وكذلك من المبالغة اعتبارها علمانية كاملة، فمن الأخطاء الفادحة قراءة المجتمعات الغربية من واقع كتابات بعض علماء الاجتماع وجداولهم الإحصائية الانتقائية، كما أنه من الخلل قراءة العلمانية من خلال آراء الفلاسفة وأصحاب المذاهب الفكرية لأن حركة الواقع أكثر تعقيدًا والتواء من القوالب النظرية..

تتبعت بعض المصادر الفكرية والفلسفية والنظريات الاجتماعية للبحث عن العلاقة ما بين العلمانية والديمقراطية وأشكال التفاعل بينهما.. وقد تبين لي من خلال ظروف نشأة العلمانية التاريخية وواقعها الراهن في الغرب أنها مرت بمراحل وظروف سياسية واجتماعية مختلفة أعطت لها طابع الاختلاف والتعدد من حيث المفاهيم والأهداف والغايات.

فالتعريف السائد للعلمانية القائل بأنها فصل الدين عن الدولة لم يعد يقدم المعرفة العلمية الدقيقة للعلمانية في صورتها الحالية، فقد تجاوزت العلمانية هذا المفهوم السائد والذي ينص على أنها مجرد نظام يفصل بين ما هو ديني وما هو زمني إلى كونها مذهبًا فكريًا فلسفياً يرفض الدين أساساً ويكرس القطيعة بين البعد الديني والفضاء الوضعي والاستقلال التام عن المسلمات الغيبية كما نادى بذلك المفكر البريطاني برتراند راسل.

إلا أن هنالك من يرى أن العلمانية نتاج الديمقراطية أو مكملة لها ومرادفة لحقوق الإنسان ومعقل المجتمعات المتطورة.. ولكن ما نفهمه تاريخياً عن العلمانية أنها ظهرت كنتيجة للصراع على السلطة ما بين الكنيسة ورجال الدين من جهة وبين الحكام الزمنيين من جهة ثانية هذا هو السائد عن جوهر العلمانية وما ترمي إليه بمعنى فك الاشتباك والتداخل ما بين هاتين السلطتين المتنازعتين على ألا يتدخل رجال الدين في شؤون الدولة وتكون الدولة محايدة تجاه جميع الأديان والمذاهب، لضمان حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية بدون تمييز بسبب الأصل أو الجنس أو الدين أو العقيدة.

فالدولة -في عرف الغرب- عندما تكون علمانية محايدة، فإن نظامها يفصل بين الدين والدولة ليكون لكل منهما دوره وحريته من دون أن تكون الدولة معادية للدين أو منحازة لأي عقيدة أو مذهب.

وفي هذه الحالة يصبح التدين حرًا وإراديًا وطوعيًا، صادر عن وجدان المتدين وقناعاته وليس عن ضغوط أو إكراه.. وفي هذه الحالة فإن الدولة لا تقف مع أي دين أو تخصه باعتراف أو تعاطف أو تفضيل وتمايز فكل دين يعكس وجوده في المجتمع بقواها الذاتية وبدون مساندة وتدخل الدولة فإن تدخلت تكون قد أفسدت مبدأ المساواة ما بين الأديان.

إذ ليس للدولة العلمانية أن تفضل دينا على دين، وهذا يعني أن تطبيق العلمانية المحايدة يعزز الديمقراطية؛ فالصلة بين العلمانية والديمقراطية هي من القوة بحيث نستطيع القول إن الأولى وليدة الثانية وإنها ركن من أركانها وجزء أصيل منها.

فعندما كانت الكنيسة ورجال الدين يمارسون سلطتهم على الأفراد والمجتمع والدولة باسم التعاليم الدينية ويضطهدون العلماء والمفكرين، ثم تأتي العلمانية المحايدة لتمنع ذلك وتوفر أجواء الحرية الفكرية ومنها حرية الاعتقاد وفي هذه الحال تكون بذلك قد أرست قاعدة أساسية من قواعد الديمقراطية طالما أن هذه تعني فيما تعنيه ضمان الحرية والعدالة والمساواة لجميع الأديان من دون أي نوع من أنواع التمييز.

وهنا لا بد من التنويه بأن وصفنا للعلمانية بأنها محايدة أمر مقصود لتحديد ما نريده منها لأن العلمانية اللادينية حسب المفهوم الماركسي تنحاز إلى الإلحاد وتتخذ الدولة بعض التدابير المشجعة عليه، وهذا في حد ذاته متعارض مع ما تقتضي الديمقراطية من ضمان حرية الفكر والاعتقاد لكل الناس.. فالعلمانية المحايدة مرتبطة بالديمقراطية أو وليدتها وإن كان هنالك بعض الاستثناءات.

ومن جانب آخر فقد تطرقت إحدى الدراسات الحديثة إلى المحاولات المتدرجة للفئات العلمانية في لبنان في تبني وبشكل واضح وعلني مشروع الديمقراطية العلمانية التي تشكل المواطنة حجر زاويتها بديلًا عن المزج ما بين الدين والطائفية والسياسة.

فإذا ما عرفنا أن الفكرة العلمانية قد نشأت في بيروت على يد بطرس البستاني أواسط القرن التاسع عشر إلا أنها بقيت طيلة قرن كامل ذات طبيعة فكرية وفلسفية ولم تتحول إلى حركة سياسية وبرنامج سياسي إلا أثناء مؤتمر العلمانيين عام 2006م وما تبعه من تحركات ما بين عامي 2016– 2019م والتي شكلت محطات في تطور وتبلور تيار علماني ديمقراطي.

ولكن أرى أن هنالك ثلاثة خيارات تحكمت في العلمانية عالمياً:

خيار يصادم الدين ويستولي عليه بالقوة كالتجربة الفرنسية والشيوعية.

وخيار الانفصال الوظيفي للدين عن الدولة مع حيادية الدولة في الشأن الديني كما هو الحال في السويد وسويسرا ومنظومة الدول الإسكندنافية.

وخيار الربط الوظيفي ما بين الدين والدولة، كما هو الحال في بريطانيا وإيطاليا وإيرلندا واليونان وإلى حد ما أمريكا.

لا ريب أن الفضاء الغربي بشقيه الأوروبي والأطلسي يخضع لعلمانية واسعة النطاق في مختلف أشكال الحياة، ولكن لا يعني اختفاء الحضور الديني أو حتى تراجعه.. فالكنيسة لم تختف من المشهد الثقافي والاجتماعي كما تصور ذلك أدبيات العلمانيين بل أصبحت جزءا من المجتمع المدني تتولى فئات المحرومين والمهمشين وتشد من أزر المتساقطين.

ولكن من التبسيط وصف المجتمعات الغربية بأنها مسيحية، وكذلك من المبالغة اعتبارها علمانية كاملة، فمن الأخطاء الفادحة قراءة المجتمعات الغربية من واقع كتابات بعض علماء الاجتماع وجداولهم الإحصائية الانتقائية، كما أنه من الخلل قراءة العلمانية من خلال آراء الفلاسفة وأصحاب المذاهب الفكرية لأن حركة الواقع أكثر تعقيدًا والتواء من القوالب النظرية.. فالغرب الحديث يتدخل فيه البعد الديني المسيحي مع الفكر الروحاني والأغريقي مع الوجه العلماني إلى الحد الذي لا يمكن فصل هذه العناصر عن بعضها البعض.

ولكن العلمانية في صورتها الحالية عبارة عن حركة مساومات وتسويات بين مختلف القوى الاجتماعية والدينية المتنازعة حينًا والمتوافقة حينا آخر، وهذا ما يفسر اختلافها من بلد إلى آخر ومن حقبة تاريخية إلى أخرى.. فالصراع بين الدين والدولة لم يكن قاعدة عامة لكل دين ودولة، وإنما كانت حالة خاصة بأوروبا في القرون الوسطى. فهناك علاقة انسجام وتفاهم بين البوذية والهندوسية والكونفوشيوسية والدول في آسيا وبين الإسلام والدول العربية والإسلامية.. فمفهوم العلمانية مفهوم شائك ومتلون ويكتنفه الغموض وذلك لاختلاف معناه باختلاف البيئة والسياق الذي يستخدم فيه والمراحل التاريخية التي تطور فيها.