مع حلول القرن السابع عشر الميلادي أخذ الفلاسفة الأوروبيون يسعون إلى توظيف مكتسبات عصر التنوير في مجال نقل "السيادة" من كونها كما كان يشار إليها آنذاك بأنها"إلهية المصدر" يستمد منها الحكام الأوروبيون حقهم في الحكم ضمن مفهوم "الحق الإلهي للملوك" إلى كونها "أرضية أو دنيوية المصدر" بحيث تكون للشعب وحده الذي يجب أن يكون له الحق دون غيره في تقرير مدى صلاحية الحكام من عدمها، هذا التقدم في الفكر السياسي الخاص بتغيير مكان ومصدر السيادة جاء على خلفية الصراع المرير الذي جرى بين الكنيسة من جهة،وبين الملوك الأوروبيين من جهة أخرى حول السلطة الروحية/ الزمنية التي كانت تدعيها الكنيسة الكاثوليكية حقاً حصرياً لها، والتي عن طريقها تستطيع تنصيب أولئك الملوك أو عزلهم إذا اقتضى الأمر.

في محاولاتهم لتبيئة موضوع "سيادة الشعب" قام الفلاسفة الأوروبيون بطرح مفهوم "العقد الاجتماعي" وهو مفهوم أرادوا من خلاله التأكيد على أن فلسفة أو آلية الحكم تتضمن وجود طرفين هما: الحكام والشعب، وأن هناك عقداً اجتماعياً تم إبرامه بين الطرفين، تنازل بموجبه الشعب عن حقه في السيادة إلى الحكومة سواءً أكانت مؤلفة من فرد أوجماعة أو مجلس،، إلخ، مقابل ضمان حقوقهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والحرية في التعبير وكافة أشكال الممارسة السياسية الديمقراطية، وقبل تنازل الشعب عن حقه في السيادة لصالح الحكومة، كان أفراد الشعب وفقاً لفلسفة العقد الاجتماعي قد تنازلوا عن حقوقهم الفردية لصالح "المجتمع" الذي قام بدوره بنقل حقه كمجتمع وليس كأفراد لمصلحة الحكومة لممارستها في ظل شروط صيانة وضمانة الحقوق الأساسية للمواطنين.

اقتضى هذا المفهوم الفلسفي الجديد للعقد الاجتماعي افتراض وجود وضع سابق كان يعيش الأفراد في ظله قبل توصلهم لهذا العقد،هذا الوضع السابق هو ما اصطلح عليه الفلاسفة الأوروبيون أو افترضوا بأنه"حالة الطبيعة" ويقصدون بحالة الطبيعة هنا أن الإنسان وقبل أن يتحول إلى كائن اجتماعي يعيش في مجتمع، كان حراً طليقاً يملك قدرة وحرية واسعة لا تحدها حدود للتعدي على كل شيء والاستمتاع بكل شيء وتمَلُّك كل شيء وأن كافة الأفراد متساوون بهذه القدرة والحرية.

هنا اختلف أولئك الفلاسفة حول تفسير سلوك الإنسان خلال مرحلة "حالة الطبيعة المفترضة" وكان أشهر من نظَّر لهذه المسألة من الفلاسفة الأوروبيين على التوالي الإنجليزيان (توماس هوبز 1588 1679) و( جون لوك 1632 1704) والفرنسي ( جان جاك روسو 1712 1778) ويهمنا هنا أن نستعرض آراء كل من "لوك" و"روسو" أولا، ثم نستعرض بعدهما رأي "هوبز" باعتبار أن ما توصل إليه هذا الأخير في تعريفه لحالة الطبيعة هو ما يتطابق مع ما سنورده في هذا المقال عن الحالة المعاشة في العراق اليوم، بالنسبة لجون لوك فقد افترض أن الإنسان يمتلك عقلانية مطلقة إبان عيشه في حالة الطبيعة التي توفرت فيها الحرية والمساواة حيث نظم العقل البشري حياة الأفراد عن طريق حملهم على احترام حيوات وحريات الآخرين وأموالهم وخصوصياتهم والتكاتف ضد الظالم لصالح المظلوم وذلك بايقاع العقوبة ضد ذلك الظالم بما يناسب جرمه أو ظلمه دون زيادة أو نقصان، ولما كان من مقتضيات حقوق الإنسان الطبيعية إلى جانب حقي الحرية والمساواة أن يتمتع بحق "الملكية" التي تعني حقه في امتلاك قطعة من الأرض تتناسب وما يستطيع عمله للحفاظ على وجوده بحيث لا يتعدى ما هو ضروري لمعيشته، فإن التزام هذه الحدود التي ينظمها العقل (حيث لاوجود لمجتمع أو حكومة) يقي الإنسان شرور التنازع والتصارع والتنافس غير الشريف، ولكن لما كانت حالة الطبيعة بطبيعتها لا تخلو من المشاكل الناجمة عن تضارب المصالح واحتكاكها فإن العقل يتدخل مرة أخرى لفض هذا النزاع باقتراح نموذج للعقد الاجتماعي يتضمن قيام الأفراد بتنظيم شؤونهم بسن قوانين يرضى عنها الجميع (السلطة التشريعية) وبإقامة قضاة يسهرون على تطبيقها ( السلطة القضائية) وتعيين سلطة قادرة على تنفيذ الأحكام الصادرة عن أولئك القضاة( السلطة التنفيذية) وبذلك انتقل الناس من "حالة الطبيعة" التي لا تخلو من المشاكل إلى حالة "المجتمع" المنظم بقوانين وسلطات لتنفيذ تلك القوانين، وهنا نلاحظ أن لا سلبية يمكن أن تُلاحظ على حالة الطبيعة لدى لوك سوى ما ينتج من المشاجرات والمنازعات الطبيعية التي أدت إلى قيام المجتمع أولاً ثم الدولة ثانيا، إلا أنها في عمومها حالة خير وحرية ومساواة نتيجة لعقلانية البشر.

أما "روسو" فقد نظر إلى حالة الطبيعة باعتبار أن الجنس البشري يشكل أحد فصائل الحيوانات التي كانت تعيش في غابات الطبيعة التي يعيش فيها الإنسان متوحداً مع الحيوانات الأخرى، وهو بالتالي لم يكن يتكلم لغة ولا يعرف مهنة ولا صناعة كما لا توجد حدود أو قيود على سلوكه بالإضافة إلى انتفاء مفهوم القيم لديه من فضائل أو نقائص يمكن أن تحدد سلوكه، وهو فوق ذلك سعيدٌ بهذا الوضع أيما سعادة نسبة لمحدودية حاجياته وطموحاته التي تعني حتماً قلة مشاكله ومتاعبه، ليس هناك ما يضطره إلى التخلي عن وحدانيته وحريته والدخول في عقد لإنشاء المجتمع سوى ما يعانيه من كوارث الطبيعة التي تضطره إلى العيش في جماعة للتعاون مع أبناء جنسه لاتقاء شر تلك الكوارث، وعلى إثر ذلك نشأ الاجتماع البشري الذي أفسد صفاء ونقاء الطبيعة، ولا يمكن إصلاح ما أفسده الاجتماع البشري إلا بإقامة الحكم الصالح المتكئ على "الإرادة العامة" للشعب وكذلك القيام بالتربية الصالحة، وبالتالي فالطبيعة البدائية التي كان يعيش فيها الإنسان قبل قيام المجتمع وفقاً لروسو كانت خيراً وسعادة وصفاءً وحرية وانطلاقاً من كل قيود ولم يكن ثمة حاجةٌ لقيام المجتمع ومن بعده الدولة لولا كوارث الطبيعة، وهذه النظرة أيضاً تفترض ضمنياً "عقلانية الإنسان" في علاقته ببني جنسه بحيث يتحكم العقل الراشد في السلوكيات التي تفترض حتماً عدم اعتداء أحد على أحد.

بالنسبة لهوبز فقد انطلق في فرضيته عن "حالة الطبيعة" باعتبار أنها تلك الحالة التي تتميز بالحرية التامة البعيدة عن كل القيود التي لابد وأن تنتهي في نظره إلى الصراع المسلح والاقتتال بين الأفراد واعتداء بعضهم على بعض وسفك بعضهم دماء بعض انطلاقاً من فرضية أن "الإنسان ذئب لأخيه الإنسان" بحيث تؤدي في النهاية كما يقول إلى "حرب الكل ضد الكل" و بحيث لا يوجد أي أثر للعقلانية في علاقاتهم مع بعضهم، ونتيجة لخوفهم من الفناء التام فقد اضطروا مرغمين إلى الدخول في عقد بينهم تنازل بموجبه كل واحد منهم عن حريته لصالح المجتمع (نشوء الاجتماع البشري) الذي تنازل هو الآخر عن سلطاته لصالح حاكم أو مجموعة حكام يتولون تنظيم المجتمع (نشوء الدولة).

ما يهمنا هنا هو هذا التشاؤم الكبير الذي طبع فلسفة هوبز تجاه الإنسان الذي اعتبره مجموعة أفعال متوحشة لو أُطلِقت من عِقالها بأن أفلتت من رقابة الدولة لسفكت الدماء وأروت الأرض منها ولعاثت في الأرض فسادا، لأن الإنسان ليس أخاً للإنسان بل عدواً قاتلاً وذئباً شرساً يتحين الفرصة لتأتي له على وقع العودة لحالة الطبيعة ليأتي بأفعال لا تأتي بها أعتى الحيونات المفترسة التي ربما تقتل لأجل إشباع رغبتها في الأكل، أما الإنسان فبعكس ذلك تماما، إنه حسب هوبز يقتل لأجل القتل فقط لأجل إرضاء نزواته وافتتانه بإيذاء أخيه الإنسان بعيداً عن أن يردعه رادع من عقل أو دين أو إنسانية أورأفة أوغير ذلك من الفرمانات الطبيعية.

كان لتلك النظرة التشاؤمية لهذا الفيلسوف وقعها الكبير على فلاسفة عصر التنوير ومن جاء بعدهم، فقد توالت ردود الفعل عليها من زاوية أن هوبز بالغ في تجريد الإنسان من الفضيلة والعقلانية والإنسانية، وأن هذا الإنسان حسب رأي المعترضين عليه لو عاد إلى حالة الطبيعة أو إلى حالة تشبهها كحالة الفراغ الدستوري أو غياب الدولة كلياً أو جزئياً لن يكون بذلك الوصف الموغل بالعدوانية الذي قال به هوبز، حتى وإن بدت منه تصرفات ستؤدي إلى منازعات أو مشاجرات أو حتى اقتتال، فإنه لا بد في النهاية سيثب إلى رشده سريعاً بسبب ما يكنه لأخيه الإنسان من مودة ورحمة، وأن هذه الحالة المزرية التي وصفها "هوبز" لم توجد قبلُ ولن توجد بعدُ، خاصة في هذه الأزمنة التي بلغت فيها العقلانية والرشد الإنساني أوج شانهما، والسؤال هنا وفقاً لواقعنا المعاصر: هل كان لنظرية "هوبز" عن الإنسان في حالة الطبيعة المنفلتة من عِقال الدولة نصيب من الصحة؟ أم أن آراء معارضيه في تفوق عقلانية الإنسان أثبتت عكسها في المواقف التي اضطرت فيها الإنسان لأن يكون أمام أخيه الإنسان مجرداً من الرقابة والكوابح القانونية؟ إن مجرد إلقاء نظرة لواقع العراق منذ الإطاحة بالحكومة العراقية في التاسع من أبريل عام 2003م تؤكد بكل أسى وحسرة صدق نظرية ذلك الفيلسوف، ما يحدث في العراق اليوم بغياب سلطة الدولة يؤكد بلا مثنوية أن الإنسان ذئب شرس لأخيه الإنسان، فالقتل هناك وسفك الدماء تعدى مرحلة القتل على الهوية إلى القتل لمجرد إرضاء شهوة الولوغ في الدم، بل تعداها إلى إرضاء نزوات موغلة في السادية التي لا مثيل لها بالولوغ في تعذيب الإنسان قبل قتله إلى درجة تبلغ حتى سلخ جلده وهو حي!!! لم يرتدع الإنسان هناك بكوابح الدين الذي كان يربى عليه منذ نعومة أظفاره، ولم يردعه كذلك ما يردده عليه ملالي وشيوخ مذهبه بأنهم أعدل الناس مع مخالفيهم!!! لقد بلغ الاقتتال الطائفي البغيض حداً أن أي فرد تضطره ظروفه إلى المرور بالأحياء الشيعية فعليه أن لا يتهور بالتسمي بأسماء من قبيل عمر أو عثمان حتى ولو كان اسمه الحقيقي كذلك حتى لا تشوبه شائبة التسنن، وبالمثل فإن أي فرد تضطره الظروف إلى اجتياز المناطق السنية فإن عليه أن لا يتسمى بأسماء من قبيل علي أو الحسين حتى لا يؤخذ بجريرة التشيع، وإلا فقد حياته في كلا الموقفين!!!! أليست هذه إفرازات حالة الطبيعة في أشد حالاتها نكراناً وبؤساً كتلك التي افترضها "هوبز" لتمرير فكرة أو مفهوم العقد الاجتماعي في الذهنية الأوروبية، فإذا هي ربما بدون أن يتوقع هوبز تتحقق بكل جلاء بعد أكثر من ثلاثمائة سنة على وفاته وفي أرض عربية إسلامية للأسف؟ أحدث التقارير التي جاءت في سياق تأكيد وحشية الإنسان في ظل غياب رادع الدولة ما جاء في تقرير جامعة جون هوبنكز الذي نُشر مؤخراً والذي أشار إلى أن عدد القتلى في العراق منذ احتلاله تجاوز ستمائة وخمسين ألف قتيل، وأن المعدل اليومي للقتلى هناك الآن يبلغ مائة قتيل يومياً، هذا بالإضافة إلى مئات الجثث المجهولة التي تكتشف يومياً في أنحاء متفرقة بالعراق وهي إما مشوهة الملامح أو مقطوعة الأيدي والأرجل والأنوف !!! مما يشير إلى أي مدى وصلت إليه همجية الإنسان في ظل غياب الرادع الدنيوي وانفلاته من كافة القيود سواءً الدينية منها أو العقلية.

يأتي التعصب الديني كما المذهبي على رأس الأسباب التي تهوي بالإنسان سريعاً إلى مرحلة الوحشية البشرية التي تحدث عنها هوبز، إذ أن هذا التعصب يتخلق بداية في رحم آحادية الفكر الناتج من انعدام التعددية الفكرية والدينية، مما يؤدي إلى قناعة الإنسان بأن دينه أو مذهبه هو الوحيد المتوافر على كلية الحقيقة وما سواه من الأديان أو المذاهب فلا تمتلك ذرة يقين أو حقيقة، وهذه هي البذرة الأولى للعنف، أما سقيا هذه البذرة فيأتي من اليقين التام الذي يتوافر عليه الإنسان الآحادي جراء انعدام فضيلة "نسبية الحقيقة" بأن عليه واجب إدخال الآخرين في حمى يقين دينه أو مذهبه، ولكن لأن من يخالفونه دينه أو مذهبه كُثُر ولا طاقة له بالتالي بهدايتهم ولأن معظمهم مرتدون عن الإسلام في نظره فلا عذر له عند ربه سوى إزهاق أرواحهم لزفهم إلى نار جهنم وبئس المصير.

لكم أن تتخيلوا البواعث التي تدفع إنساناً سوياً إلى تفجير نفسه وسط الجموع الحاشدة من الأبرياء ليحيل نفسه ومن حوله رماداً تذروه الرياح إن لم يكن يقينه الإسمنتي يؤكد له أن يرمي نفسه وسط الكفار الذين لا حق لهم في اختيار عقيدتهم مثلما أنه لا حق لهم في الحياة طالما لا يدينون بما يدين به هو أو لا يتمذهبون على مذهبه، الرزية كل الرزية والمصيبة كل المصيبة أنه رغم كل هذا البؤس والشقاء وعذابات الروح التي تنثال على العراق الجريح جراء ذلك التيارالجارف من الإرهاب الديني فلا يزال بيننا ومن بني جلدتنا من ينفخون بكير ذلك الإرهاب بالتغرير بشباب بعمر الزهوربالإيحاء لهم بأنهم إنما يتزاحمون على أبواب الجنات وهم يفجرون أنفسهم وسط جموع بائسة غدت مع الطير خماصاً تبحث عن لقمة عيش لأفراخ بذي مرخ زغب الحواصل، فإذا هي مع وقع التفجير لم تعد تعد بحياتها فضلاً أن تعود بطانا، بل اختطفتها يد المنون على أيدي أولئك السفاحين ممن لا يرقبون فيمن يخالفهم الدين أو المذهب إلاً ولا ذمة.

لقد عالج القرآن الكريم مشكلة التعصب الديني والمذهبي بتقريره حرية الاعتقاد في آيات صريحة لا تحتمل التأويل على رأسها قوله تعالى( لا إكراه في الدين) وكذلك ( وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) وأيضاً قوله تعالى( إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لم يكن الله ليغفر لهم) مما يدل بشمل قطعي لا مرية فيه عدم ترتيب عقوبة دنيوية على حرية المعتقد، وفي سياق ذلك الأصل القرآني المتوافق مع الطبيعة البشرية فقد أصَّل القرآن للجهاد باعتباره تدعيماً وحماية لهذه الحرية التي يترتب عليها الأمن في الأوطان والأنفس والأموال والأعرض، ولا سبيل في تقديري للخروج من عنق زجاجة هذا التعصب الديني الذي يأكل الحرث والنسل ويؤذن بخراب الديار إلا بالرجوع إلى الأصل القرآني بتقرير حرية الاعتقاد( تديناً وتمذهباً) والإيمان من ثم بمقاصدية الإسلام من تشريعه للجهاد بأنه دفاع عن هذه الحرية أساساً وما يحضنها ويؤمنها من سلامة الأوطان ونجاة الأنفس والأموال.

abalkheiL@alriyadh.com