لقد أسهمت متانة العلاقات بين الرياض وواشنطن في تجاوز مرحلة البرود، الذي مرت به في بعض المراحل، ولم يؤثر ذلك في المصالح الاستراتيجية المشتركة بينهما، وذلك بفضل حكمة قادة الدولتين، التي حرصت كل الحرص على مصلحة الشعبين والبلدين.

بالمقابل أعطى الأمير محمد بن سلمان الأولوية لمصالح المملكة أولا، ودول العالم حيال إيجاد التوازن في أسواق النفط العالمية دون الالتفاف للأصوات العالمية الكبرى. وفيما قاد الرئيس بايدن فلسفة تقليصا للالتزام بالعمل العسكري في المنطقة؛ إلا أن المملكة تكيفت هذا التحول الأمريكي الجديد معتمدة على قدراتها العسكرية، ومن خلال تعزيز مجموعة أكثر تنوعًا من العلاقات الاقتصادية والأمنية العالمية شرقا وغربا وجنوبا وشمالا.

لكن يبدو أن الرئيس بايدن قد تولى منصبه وهو معتاد على تدفق النفط إلى الأسواق العالمية كنمط مستمر ومستدام اعتمد عليه أجيال من الرؤساء الأمريكيين، ولكن هذا المفهوم تغير تماما وتساقط بالتقادم، بعدما انسحبت الولايات المتحدة في المنطقة. واستثنى بايدن فنزويلا من العقوبات لتساعدها على رفع إنتاجها النفطي لعل ذلك ينفعه في الفوز في الانتخابات.

وفرضت الحرب الأوكرانية الروسية نفسها بقوة كبيرة، على صعيد مخاطر موارد الطاقة والأمن بشكل فعال، وطرق تدفقها، ما أعاد الاهتمام الأمريكي الشديد إلى منطقة الخليج بشكل خاص، بهدف تلبية احتياجات حلفائها الأوروبيين من الغاز، وإنهاء اعتمادهم على الغاز الروسي.

لا يمكن الوثوق بالغرب

وبرزت أولويات سياسة بايدن في المنطقة - إنهاء التدخل الأمريكي المباشر في اليمن وإعادة إحياء الاتفاق النووي مع إيران - مرسلة إشارات واضحة، بتغير سياساتها، مما عزز الفهم السعودي بشأن سياسات الولايات المتحدة الديمقراطية المتغيرة تجاهها وتجاه المنطقة برمتها.

وحلت سياسة الولايات المتحدة تجاه إيران ووكلائها محل السياسة الأمريكية تجاه حلفائها في الخليج في المنطقة، وأصبح الملف الفلسطيني خارج أجندة حكم الديمقراطيين، وتسبب الانكفاء العسكري الأمريكي وتقليص الالتزام الدفاعي تجاه الشركاء القدامى في المنطقة بقلق لدى الحلفاء وسرعان ماتحول هذا القلق إلى سكون وهدوء، حيث أعادت المملكة تموضعها وبوصلة توازناتها مع القوى العالمية حفاظا على مصالحها..

وتعد منطقة الشرق الأوسط، أكثر ساحات العالم سخونة، وهي تمر بحالة شديدة من الضبابية عدم استقرار ، ونشوب الكثير من الأزمات والحروب الأهلية في العديد من الدول، مثل اليمن، وليبيا، وسورية، وتتسم تلك الأزمات، بأنها بلا أفق واضح نحو الحل السياسي، كما تتشابك أطرافها الداخلية مع الأطراف الإقليمية والدولية، وتغيرت معها أنماط التحالفات والخريطة الجيواسترايتجية، وأضحت واشنطن بعيدة عن الشرق الأوسط قولا وفعلا.

سقف للمرونة

وتحكم المملكة مصالح استراتيجية متبادلة، وضعت دائما سقفا وحدودا لمدى مرونتها، وعدم ارتهانها للضغوط.

والمملكة وفي هذه المرحلة تحافظ على مصالحها في ظل نظام دولي متغير وصراعات دولية كبرى، لضمان دورها الرائد في المشهد العالمي. واعتمدت السياسة الخارجية السعودية التكيّف مع تعدد الأقطاب الدوليين، فعززت المملكة علاقاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية، بالصين وروسيا والهند، وتعززت باستعادة الدفء في العلاقة مع تركيا مؤخرا.

كما واصل سمو ولي العهد تعزيز الروابط الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية مع دول اسيا الوسطى بهدف تنويع خيارات المملكة، وتكريس مبدأ القوة كونه لايمكن الوثوق بالقوى العالمية.

تعظيم الدور السعودي

وعظمت الرياض مكانتها الدولية من خلال تعزيز شراكاتها الدولية مع القوى الرئيسية المنطقة والعالم، ولكن ليس بهدف الاستغناء عن حلفها التاريخي مع الولايات المتحدة والغرب بل سعيا للتوازن مع القوى العالمية.

وأظهر سمو الأمير محمد بن سلمان استقلالية في القرار بدون التخلي عن علاقاته بالولايات المتحدة والغرب الطويلة المدى، والتي صمدت وترسخت وخدمت البلدين بشكل جيد لأكثر من 75 عامًا. وهناك حقيقة بسيطة هي أن العلاقة بين الولايات المتحدة والمملكة بالرغم من الفوارق والتباينات في بعض الأحيان. إلا أن هناكً اعتمادا مشتركا، لا يستطيع أي من البلدين إنهاءه، وقد صمدت العلاقات في وجه الكثير من العواصف منذ بدايته، وهذا ما أوضحه الأمير فيصل بن فرحان وزير الخارجية عندما قال إن "التعاون العسكري بين الرياض وواشنطن يخدم مصلحة البلدين، وساهم في استقرار المنطقة وان علاقتنا مع الولايات المتحدة مؤسسية منذ تأسست العلاقة بين البلدين موضحا العلاقة مع واشنطن استراتيجية وداعمة لأمن واستقرار المنطقة". ويميل شهر نوفمبر إلى أن يكون لحظة الاستقراء في العالم الأمريكي حيث الانتخابات النصفية للكونجرس التي تمثل نقطة تحول في مسار الإدارة الأمريكية الديمقراطية.. ومهما كانت النتائج فإنها شأن داخلي.