في البدايات كنت أصعد مرغماً لأنام مبكراً في غرفة جدتي "سارة"، لكن منذ تلك الليلة التي أبقت جدتي - متعمدةً - مذياعها الخاص بالقرب من سريري؛ صرت أتحرق شوقاً لتشغيله كل ليلة، والإبحار بين موجات أثير إذاعاتي المفضلة.

في المرحلة المتوسطة كنت أنام في غرفة جدتي الواسعة، آنذاك تعرّفت على إذاعات الموجات المتوسطة والطويلة، من "مونت كارلو العربية" إلى "إذاعة الكويت"، ومن إذاعة "الشرق الأوسط" إلى أهمها وأكثرها أثراً: القسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية، الشهيرة بلندن، التي تستطيع الاستماع لها بوضوح متى ما حركت المؤشر بهدوء، بالقرب من بث الموجة المتوسطة لإذاعة جدة.

بعد صلاة العشاء كان يصادف بث برنامج إذاعة لندن الشهير: "السياسة بين السائل والمجيب"، الذي كان يُعد "جوجل" تلكم الأيام، يستقبل الأسئلة المختلفة من أنحاء الوطن العربي، ويجيب عليها بعمق وتوسع مُبهر، استمعت لمئات ومئات الحلقات، أثارت لدي فضول السؤال ودهشة المعرفة، ناهيك عن برنامج "عالم الكتب".

ثم نشرة أخبار التاسعة، التي تبدأ بدقات "بيغ بين" الشهيرة.. ثم الجملة الأشهر: "التاسعة بتوقيت جرينتش.. هنا لندن" لتبدأ نشرة الأخبار التي نقلت الأحداث وأثرت على ملايين المستمعين في العالم العربي على مدى عقود متواصل، بصوت محمود المسلمي، ماجد سرحان، حسن معوض، وغيرهم ممن تميزوا بالاحترافية واللسان العربي الفصيح.

كنت للتو بدأت تذوق الأدب العالمي، غير أن استماعي للمسرحيات الإذاعية في إذاعة لندن دفعني لمزيد من القراءة والإبحار، تلكم المسرحيات التي قام عليها الفنان المصري "فاروق الدمرداش" على مدى عقود متتالية.. لم تكن روايات شكسبير فقط التي تحوّلت إلى مسرحيات، بل حتى "برنارد شو" و"أوسكار وايلد" وغيرهم كثير، من "الملك لير" إلى "تاجر البندقية"، ولا زلت حتى اليوم أعشق الاستماع للمسرحيات الإذاعية، وأراها من أجمل قوالب الدراما، كونك أنت من يرسم المشهد ويتخيل الأبطال وحركتهم.

نَمت علاقة خاصة بيني وبين مذياع جدتي من طراز "ناشونال باناسونيك" ذي الغلاف الجلدي البني، صغير الحجم خفيف الوزن، الذي كان على مدي سنوات نافذتي الواسعة نحو الثقافة والأدب والترفيه، خصوصاً برامج إذاعة "لندن"، التي أتمنى أن تصنف أرشيفها من البرامج الثقافية والسياسية، وتتيحها للاستماع والتحميل على موقعها الإلكتروني، خاصة أنه غير متوفر في منصات التواصل الاجتماعي حالياً.

تطلّ عليّ جدتي للتأكد من نومي، أُخفض صوت المذياع، تعلّم أنني مستيقظ! لكنها تبتسم كعادتها وتغلق الباب، حتى أعود لعوالمي وتعود بعد دقائق لتغلق المذياع بعد أن أغفو على صوت الإذاعة.

توفيت جدتي "سارة بنت سعود بن معمر" قبل ستة وعشرين عاماً، ولا يزال طيف لطفها وحبها يتراءى، اليوم أطوي إحدى ذكرياتي معها التي أثرت على تكويني الثقافي وموهبتي الأدبية، بعد أن أُعلن توقف بث إذاعة "لندن" واقتصارها على المنتجات الرقمية، رحم الله جدتي.. ووداعاً "هنا لندن".