خلال مسيرتها السياسية شهدت روسيا عدة تدخلات عسكرية في دول الجوار، أولها حين دخلت القوات الروسية الشيشان، وظلت هناك طيلة عامين، وانتهت بإعلان جمهورية الشيشان كدولة مستقلة في1996.
وفي 12 يونيو 1999، كانت المغامرة الثانية، حين دخلت القوات الروسية إلى إقليم كوسوفو وحاصرت مطار برشتينا من جهته الجنوبية الغربية، التي كان من نتائجها أن تخلى جيش تحرير كوسوفو عن صفته العسكرية وباتت روسيا إحدى قوات حفظ السلام في المنطقة.
وبعد 9 سنوات على غزو كوسوفو دخل الروس إلى جورجيا وقصفوا مدينة غوري ومطار مارنيولي العسكري بشرق جورجيا ومرفأ بوتي على البحر الأسود، في 9 أغسطس 2008، حينها برر بوتين تلك الخطوة التي قوبلت بانتقاد دولي كبير بأنها رد على ما وصفه "السياسة الإجرامية" التي تنتهجها جورجيا. ومن جورجيا إلى جارتها أوكرانيا، حيث شنت القوات الروسية هجومًا على بعض المدن في المنطقة الشرقية، في 2014، كما دعمت انفصاليي الدونباس (دونيتسك ولوغانسك) الموالين لموسكو، في حربهما ضد الحكومة الأوكرانية، وقبل النهاية كان الإعلان عن ضم شبه جزيرة القرم وأخير الحرب في أوكرانيا وضم أقاليمها.
ورغم أن الرئيس بوتين أكد عدم سعيه لإعادة بناء الإمبراطورية الروسية، إلا أنه أدخل العالم عمليا أخطر مرحلة منذ الحرب الباردة بحربه في أوكرانيا، وضمه للأقاليم مؤخرا، كما مثل تفجيرات خطي نوردستريم، لنقل الغاز الروسي، تطورا جديدا للحرب في أوكرانيا، وتعميقا لأزمة الطاقة في أوروبا، في خطوة من شأنها تعميق انخراط الاتحاد الأوروبي بشكل أكبر في الحرب.
فتفجيرات أنبوبي نورد ستريم جاءت قبل يوم واحد من إعلان نتائج الاستفتاءات التي جرت في 4 مقاطعات أوكرانية تخضع لسيطرة الجيش الروسي (خيرسون، زاباروجيا، لوغانسك، دونيتسك). وتتبادلت كل من روسيا والدول الغربية الاتهامات بوقوف الطرف الآخر وراء هذه التفجيرات، رغم أن التحقيقات لم تكتمل بعد، ولكن هناك إجماع على أن الانفجارات التي وقعت متعمدة، وتقف وراءها دولة ولها علاقة بالحرب في أوكرانيا.
وتتوجه معظم أصابع الاتهام الغربية إلى روسيا بالوقوف وراء التفجير، وترد موسكو بأن الاتهام "متوقع وعبثي"، فروسيا متضررة أيضا من التفجيرات، لأن أنابيب الغاز روسية والغاز المتسرب روسي، ومن الصعب تقبل أنها أطلقت النار على قدمها.
إن الصراع بين روسيا من جهة والولايات المتحدة والأوروبيين من جهة أخرى، دخل في مرحلة جديدة وخطيرة حيث يؤكد دخول حرب الممرات الاقتصادية في منطقة متوهجة ومجهولة، من خلال ما أطلق عليه اسم” إرهاب خط الانابيب”.
لقد أدخل بوتين العالم في لعبة بوكر روسية جديدة في تحد واضح للغرب عبر ضمه للأقاليم الأوكرانية تحت نظر العالم كله وتظهر الأحداث الأخيرة في أوكرانيا تعاظم الدور الروسي في العالم، على حساب تراجع أميركا ودورها كدولة محورية، أو كقطب سياسي، ضمن واقع أحادي القطبية يعيشه العالم منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، ذلك الانهيار الذي نشأ عنه انفصال عدة دول في شرق أوروبا وإعلان استقلالها.
ويمكن قراءة تصاعد الدور الروسي في العالم بعد فرض بوتين قراره في الأقاليم الأوكرانية التي ضمها، ومن خلال الأدوار الكثيرة التي باتت تقوم بها روسيا في العالم وإن كان تركيزها على أوروبا والشرق الأوسط بشكل أساسي.
ويعلم الدب الروسي قوة أوراق الضغط التي يمتلكها ويوظفها بشكل برغماتي قوي، فبجانب التفوق الممنوح له جيوسياسًا يمتلك ورقة الغاز والطاقة كأحد أبرز الأسلحة الموجهة صوب أوروبا التي تعلم يقينًا نفوذ وأهمية إمدادات الروس من الطاقة التي تشكل أكثر من ثلث احتياجات القارة، ولعل القفزة التي شهدها سوق النفط عقب الاعتراف بالجمهوريتين تعكس حجم وقوة تلك الورقة.
ويبدو أن الواقع السياسي العالمي يظهر أن الهيمنة الأميركية وأحادية القطبية التي كانت تمتلكها أميركا باتت تتخلخل -أو على الأقل في جانب النفود السياسي والحضور العسكري- لصالح روسيا، وإلى حد كبير في الجانب الاقتصادي لصالح الصين.
ومع كل هذا الواقع والمساعي الروسية لأخذ دور قطبي جديد في المنظومة الدولية فإن هناك عدة تحديات أمام روسيا في مسعاها هذا، وهي تمكنها من فرض هيمنتها الثقافية والعسكرية في أنحاء تتجاوز أوروبا والمتوسط، واستدامة هذا النهج الروسي ليكون نهج دولة وليس مسار رئيس هو بوتين، وعدم استمرار الولايات المتحدة والأوروبيين في التساهل مع الروس، وقدرة روسيا على تطوير اقتصادها أكثر لتتجاوز قوتها الجانب العسكري وحضورها السياسي إلى جوانب أخرى.
في ظل هذا الواقع العالمي الذي نعيشه من تراجع دور الولايات المتحدة وحلفائها وعدم وجود إرادة سياسية عند القيادات الأميركية بأخذ زمام المبادرة لمجابهة الدور الروسي فإن الروس سيستمرون في سياستهم الذاتية بالحصول على مكاسب أكثر في المنطقة، وهنا يكمن الاختبار الحقيقي لإرادة روسيا الحقيقية وطموحها إلى جانب سياستها الذكية أو انكفائها وتراجعها واقتناعها بأنها ما زالت بعيدة عن احتلال موقع القطب الثاني من جديد.
والأزمة الأوكرانية لا تتعلق فقط بأوكرانيا وما يجري على حدودها الشرقية مع روسيا، بل تمتد الأزمة إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير وتستقر عبر المحيط الأطلسي هناك في البيت الأبيض، إذ تمثل الأزمة في جوهرها صراعاً بين بوتين وبايدن حول انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو. ومن المتوقع أن تظل لعبة شد الحبل بين روسيا والغرب في أوكرانيا مستمرة حتى حين، فأوراق الضغط بيد كليهما كفيلة بإطالة أمد الأزمة، فالغرب لن يجرؤ على كلفة حرب دفاعًا عن شعب أوكرانيا، كما أن روسيا في غنى عن الوقوع في هذا الفخ، لتبقى سياسة النفس الطويل هي ما سيحكم الأمر، ومع ذلك فالسيناريوهات كلها على طاولة الاحتمالات.
التعليقات