ما إن تدلف من المدخل المبهج للمتنزه، ثم تنعطف نحو الشمال.. تخطو بضع خطوات بين متاجر الشوكولاتة والألعاب المبهجة، حتى تقابلك نافورة صغيرة يتوسطها تمثال للرجل الشهم، الذي لم ينسَ أبناء بلدته، والأهم موظفي مصانعه.

هناك في متنزه "هريشي" الترفيهي الذي يقع في مدينة تحمل اسم عائلة رائد الأعمال الأميركي "ميلتون هيرشي"، يقف تمثاله متوسطاً النافورة، ممسكاً قبعته وكأنما يرحب بالقادمين، لكي يعيشوا أجواء سعيدة، ويستمتعوا بأنواع الشوكولاتة التي اشتهر بها.

حينما كان "ميلتون هيرشي" مراهقاً تدرّب على صناعة الحلوى وأبدع بها، ما شجعه أن يقترض 150 دولاراً من عمه ليفتح متجراً للحلوى في فيلادلفيا لمدة ست سنوات، ثم انتقل لتعلّم صناعة الكراميل في دنفر، ثم إلى نيويورك ونيوأورليانز ليجرب حظه مرات متتالية في التجارة، ليبوء بالفشل! فعاد إلى موطنه ولاية بنسلفانيا عام 1886م، وبدعم كبير من عائلته استطاع تأسيس شركته "لانكسر كراميل"، بيد أنه أضاف هذه المرة الحليب الطازج بطريقته الخاصة، مما أضفى على منتجه مذاقاً لذيذاً وحقق له نجاحاً كاسحاً، لدرجة أنه استطاع تصديره إلى بريطانيا.

غير أن عشقه للشوكولاتة جعله يبيع شركته المتخصصة بالكراميل مقابل أن يشتري آلات تصنيع الشوكولاتة، ويبدأ مغامرة من الابتكار لم تتوقف بعده، إذ كان مؤمناً أن حب الناس للشوكولاتة يفوق حب الكراميل، وكان يردد أن "الكراميل مجرد بدعة، ولكن الشوكولاتة شيء دائم"!

قرر "هيرشي" بناء مصنعه للشوكولاتة في مسقط رأسه "ديري تشيرس" عام 1903م، التي باتت لاحقاً تعرف باسمه! ليبتكر مجموعة متتالية من المنتجات، التي أمست أشهر أنواع الشوكولاتة، أشهرها: "قبلة هيرشي".

كان يحرص على رفع معنويات موظفيه بواسطة الأنشطة الترفيهية، كونه تنبه مبكراً إلى تأثير ذلك إيجابياً على بيئة العمل وبالتالي جودة المنتجات، فأنشأ لذلك متنزهاً مجاوراً لمصنعه، وأضاف له حديقة حيوان، ثم طورها إلى مدينة ألعاب تستهدف موظفيه وذويهم، لكنها خلال سنوات توسعت لتستقبل الجمهور من خارجها، وأضحت إحدى أهم المتنزهات الترفيهية في عموم أميركا!

لم ينسَ "هيرشي" مجتمعه المحيط فأسس عام 1909 مدرسة داخلية تستقبل الأيتام، تحوّلت مع اهتمامه الشخصي -كونه لم يرزق بالأبناء- إلى إحدى أفضل المدارس التي تستقبل الطلاب ذوي الظروف الصعبة وتمنحهم فرصة التعليم، ناهيك عن مساندة المجهود الحربي خلال الحرب العالمية الثانية، إذ زود الجنود ما يزيد على مليار قطعة شوكولاتة تمنحهم الطاقة، ثم استطاع تصنيع قطع شوكولاتة تتحمل حرارة تفوق 48 درجة مئوية لصالح الجيش الأميركي.

ما أزال أتذكر رائحة زيارتي الأولى لمدينة الشوكولاتة "هيرشي" 2009م والتنقل بين مراحل صناعة ألذ الأطعمة داخل متحف التصنيع، ورغبتي الجامحة لزيارة المتنزه المجاور، والتي لم تتحقق سوى صيف هذا العام، حيث توقفت طويلاً أمام تمثال الرجل الذي غيّر من طعم الشوكولاتة إلى الأبد!