هناك «هوية نقلية»، أي أنها هوية تكرارية معيارية نصوصية، وهناك «هوية عقلية» نسبية وغير تكرارية ومتجددة، والفرق بين الهويتين أن الأولى تختزل الزمن في حدث وصورة واحدة، فالتكرار وإعادة ما هو مجرب والخوف من الأفكار الجديدة وتأجيل التحديات، تشكل سمات هذه الهوية، بينما تحرر الهوية العقلية نفسها من أي قيد..

قبل فترة وصلني أحد المقاطع يظهر فيه رجل ملتحٍ، تظهر عليه سمات العلم، وصار يفرق بين العقل والنقل، فقال إن النقل ثابت وصحيح ولا يرقى إليه الشك، ويقصد بذلك القرآن والسنة النبوية، بينما العقل، فلكل منا عقله وتختلف العقول باختلاف حامليها. وفي موقف آخر يعلق زميل على كثير من الأفكار بنصوص مطولة، فهي التي تحمل الإجابة الشافية التي لا مراء فيها لكل مسألة، ومن وجهة نظره فلا اجتهاد مع النص، رغم أن ما يستشهد به ليس نصوصاً من الدرجة الأولى، فهو أحياناً يستدل بفعل بعض الصحابة والتابعين وأقوالهم وكأنها نصوص مقدسة يمكن أن نبني حياتنا المعاصرة حولها، وأنا هنا لا أتحدث عن نصوص تمس العبادات. أنا لا أشكك في هذه النصوص، ولكن لا أرى أنه من الواجب أن نتبعها، فإذا كانت هناك نصوص مقدسة فتفسير النص المقدس لا يكتسب القداسة نفسها. ثمة عقول تقيدها نصوص، ليس لها أي قداسة، وتشل من تفكيرها وتحبس خيالها إلى درجة لا يمكن إصلاحها، فهي لا تملك المقدرة على محاورة الرأي الآخر بل كل ما تقوم بها هو إخضاعه لميزان النص، ويبدو أن سلطة هذا الميزان لا يمكن منافستها.

من الصعوبة بمكان أن تخوض حواراً متزناً مع إنسان لا يتحدث بلسانه وبعقله، وتحركه النصوص وما يعتقده من تفسيرات حولها، فهي، في هذه الحالة، تشكل "الإطار" المُرشّح، فكل ما يتفق معها يكون ضمن المرضي عنه وكل ما يخالفها يتم شيطنته. يتم كل هذا دون حوار عقلاني يمكن الركون إليه، إذ إنه عند حضور النص يجب على الجميع التسليم. قادتني قراءتي لمحمد عابد الجابري ونصر حامد أبو زيد وغيرهما من المفكرين خلال الأربعة عقود الأخيرة حول العقل العربي وإشكالية النقل والعقل إلى تساؤل حول: هل العقل هو مشكلة الإنسان؟ فكل ما يدفع الإنسان لمعرفة الحقيقة يمثل حالة من الخوف، ويبدو أن الإنسان عبر التاريخ كان يسعى دائماً إلى محاربة العقل، لذلك نجد أن الخرافة وتقاليد الجهل هي الطاغية، بينما ثورات العقل ومقاومة الظلام شكلت شذرات وطفرات تاريخية لم تتصاعد وتشكل قوة دافعة إلا في القرون الأخيرة.

تجدر الإشارة إلى سؤال منهجي حول الحضارات الإنسانية، فهل تحتاج نشأة الحضارة إلى عقل واحد أم إلى عقول متعددة؟ الإنجليز يقولون: "عقلان أفضل من واحد"، والقول إن العقول المتعددة تفتقر للصواب المعرفي نابع في الأساس من أن أصحاب هذا الرأي يؤمنون بالعقل الواحد الذي هو النص، فهو الذي يحركهم، ورغم أن النصوص ذاتها يوجد حولها وحول تفسيراتها اختلافات كبيرة، إلا أن هؤلاء يحتاجون إلى من يتخذ القرار نيابة عنهم، وهم يتعلقون بالنصوص لأنهم لا يملكون الجرأة لتحكيم عقولهم في أي مسألة. كثيراً ما عمل النقل والتشبث بالنصوص كوكيل مباشر وغير مباشر لإصدار الأحكام والقرارات التي ساهمت في تغييب العقل. وربما يتفق البعض مع مسألة أن غياب العقل لا يحتاج إلا إلى محاصرته من خلال نصوص لا تسمح له أن يعمل ويولّد حلولاً وأفكاراً جديدة. كما أنه من المتفق عليه أنه عندما تغيب التحديات يغيب الإبداع، ولا تغيب التحديات إلا بسبب غياب العقل.

مازلت أرى أن غياب التجريب والفضول المعرفي وتراجع العمل المؤسسي منذ مطلع الألفية الميلادية الثانية (القرن الرابع الهجري) كان نتيجة مباشرة للتراجع التدريجي لوجود التحديات التي تهدد الوجود، نتيجة لتراجع العقل، حيث أصبح النص يحمل الحل السحري، وكل عمل فيه تجريب أو ابتكار يواجه بمئات الملاحظات النصوصية التي تحد من سعته وتحجمه. كل المشروعات المعرفية والعلمية في تاريخنا لم يكتب لها الاستمرار، وكل المؤسسات العلمية لم تتطور لأن مجتمعاتنا محكومة بنصوص جامدة تجعلها تولد تقاليد طاردة للتطور الحضاري والركون للتكرار وما هو معروف ومجرب مسبقاً.

من الجدير بالذكر أن هناك "هوية نقلية"، أي أنها هوية تكرارية معيارية نصوصية، وهناك "هوية عقلية" نسبية وغير تكرارية ومتجددة، والفرق بين الهويتين أن الأولى تختزل الزمن في حدث وصورة واحدة، فالتكرار وإعادة ما هو مجرب والخوف من الأفكار الجديدة وتأجيل التحديات، تشكل سمات هذه الهوية، بينما تحرر الهوية العقلية نفسها من أي قيد وتثير الأسئلة حول ما هو متفق عليه ولا ترضى بتحويله إلى حقيقة لا تقبل للشك، كما أنها هوية لا تقبل التوقف في محطة ما كثيراً، فهي عندما تتوقف تمرض وتموت، لذلك بمجرد أن تنتقل إلى محطة جديدة تبدأ في البحث عن المحطة التي تليها.