معظم المؤثرين الرقميين في المملكة أصحاب شخصيات استعراضية، وما يقومون به من عرض ليومياتهم ومشترياتهم على المنصات الاجتماعية، يأتي لتعزيز مفهوم القيمة وتقدير الذات لديهم، وهم في الواقع غير مستقرين في دواخلهم، ومعتادون على اختلاق الأكاذيب والاعتراف بها، ولا يقدمون إلا سعادة زائفة ومؤقتـــــة، وضحكات مســـــروقة من مسرحيات قديمـة، ولا يدخـــل في هذا المشــاهير الفعليون والفنانون، أو من يطلب منهم القيام بأعمال معينة لأغراض الدعاية والإعلان، على أن تكون ضمن السياق المقبول والاحترافي، ولا تخترق حواجز الخصوصية وقيم المجتمع السعودي والذوق العام.

كان الناس في السابق يجدون المتعة والسعادة في أشياء بسيطة، أهمها، الحياة العائلية المستقرة والأطفال والوظيفة الآمنة والدخل الجيد، إلا أن أولوياتهم تغيرت في الثلاثين عاماً الماضية، وارتفع سقف الطموحات لديهم بصورة كبيرة، وأصبحوا يفكرون في امتلاك أكثر من منزل ومجموعة من السيارات، على سبيل المباهاة والاستعراض، ويستخدمون السوشيال ميديا في توثيق مشترياتهم من الماركات العالمية، وفي إطلاع الآخرين على رحلاتهم الصيفية لأفخم المنتجعات في الشرق والغرب، ويبحثون عن وظائف برواتب عالية لا يحتاجـــــونها، وعن رصيد محتـــــرم في البنك لن يستخدمــــوه كاستثمار، بطبيعة الحال، وسينفقونه على الكماليات بدرجة أكبر من الأساسيات.

هـــــذه الظـــاهرة رصدها الاقتصادي الأميركـــي ثورستين فيبلين، في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، وسماها بالاستهلاك التفاخري في كتابه: نظرية الطبقة المترفة، وقال فيه إن الناس في الغالب يشترون الأشياء الغالية جداً، من دون احتياج فعلي، وذلك بغرض التفاخر أمام الآخرين أو مجاراتهم في أنماط استهلاكهم، وأنهم يبحثون من خلالهـا عن القبول والمكانة الاجتماعية، وليس القيمة في مقابل السعر، والتنافس في العـــــادة يكون بين طبقتين مختلفتين في المستوى الاجتماعي، ومن الأسفل إلى الأعلى، ويفترض في هــــؤلاء أن يكونوا من الأقارب أو الأصحاب أو زملاء العمل، أو من الدوائر القريبة للشخص، وفي الظروف الحالية، دخل إلى القائمة مشاهير السوشيال ميديا فيما بينهم، أو بعمل مقارنات معهم من قبل جمهور المتابعين لهم، والعملية تتداخل فيها أمور كالغطرسة والحسد وتوظيف الأقل مكانة وقيمة كموضوع للتسلية والنكات، وفي منصات التواصل الاجتماعي تستـــــخدم العواطف كسلعة للتداول، وكوسيلة لكسب المال وتعظيم رأس المال الاجتماعي.

جامعة كورنيل الأميركية نشرت دراسة في نوفمبر 2011، وقامت فيها باختبار الاستهلاك التفاخري وفق عاملي الرؤية ومرونة الدخل، وكانت النتيجة أن الناس تنفق بشكل تفاخري أكبر على السلع التي يمكن لغيرهم رؤيتها، كالمجوهرات والسيارات والملبوسات الخارجية، وفي المقابل يقل إنفاقهم على الأشياء التي لا تظهر لعموم الناس ولا يرونها، كالملبوسات الداخلية والبيجامات وغيرهما، مع ملاحظة أن الشخص قد يشتري الكماليات مرتفعة الكلفة، لأسباب نفسية، تتعلق بتقديره لذاته أو لحماية نفسه من ضغوطات تمارس عليه.

السعادة كانت مرتبطة بالروحانيات والهدايا الإلهية في الحضارات القديمة، حتى جاء إيمانويل كانط، في القرن السادس عشر الميلادي، بفكرة صناعة السعادة بمجهودات شخصية، وفي القرن الثامن عشر الميلادي اهتم الناس بالدلالات الأخلاقية للمكانة الاجتماعية، فأصبح الأذكياء والمبدعون والفضلاء من أصحاب المكانة العليـا، والكسالى والخاملون ومحـــــدودو القدرات العقلية وقليلو الحيلة من أصحاب المكانـة الدنيا، وارتبطت المكانة بالمنجز الشخصي لا الجمعي على المستوى المالي، وتحولت الثروة إلى وسيلة لكسب الاحترام والقيمة الفردية، وهو ما أكد عليه الرئيس الأميركي توماس جيفــرسون في خطاب الاستقلال، الذي حبر في سطوره ركائز الحلم الأميركي.

فترة التحول إلى الحداثة الأميركيـة وارتباطها بالممتلكات والثروة بدأت بعد الحرب العالمية الأولى، أو تحـــــديداً في عام 1920، وتم فيها ربط السلـع في الإعلانات بالعواطف والأحاسيس لا بمواصفاتها المادية، إلا أن وصولها العربي حدث متأخراً بعد الاستعمار والحرب العالمية الثانية، وكان ذلك عن طريق لبنان ومصر بواسطة الصحافة والسينما، ومن ثم أصبحت الكويت منارة الإشعاع الاستعراضي لجيرانها من دول الخليج، والمرجعية العاطفية ساهمت في تكريس مفهوم السلوك التفاخري والسلع الفيبلنية، نسبة إلى فيبلين، والمقصود بها السلع التي كلمـــا زاد سعرها ارتفع الطلب عليها، وتكون في الغالب فخمة وحصرية ولا يستطيع شراؤها إلا الفئة المترفة، ومن يحاولون الدخول لعوالمها.

وجدت دراسة طويلة أجرتها جامعة هارفارد الأميركية منذ 1938 ولا تزال، على 724 رجلاً، في محاولة لمعرفة ما يسعدهم، أن السعادة ليست في الطبقة الاجتماعية ولا الجينات ولا المادة ولا الممتلكات ولا الاستهلاك ولا الشهادة الجامعية، ولكنها في اجتماعية الإنسان وفي علاقاته السوية بالآخرين، ما يعني أن اللامبالاة الاجتماعية مطلوبة، وعلى طريقة أكثر من ملياردير غربي مشهور، فهؤلاء رغم ثرواتهم، لا زالوا يواظبون على تناول إفطار قيمته ثلاثة دولارات، ولم يغيروا الحذاء نفسه لأعوام، ويستخدمون مدفأة كهربائية لا تتجاوز قيمتها 40 دولاراً، ويلبسون ساعة يد بقيمة 50 دولاراً، وكل شخص استثنائي في مهمته وفي فرصه وفي قيمته كإنسان.