إذا كان المُجتمع في أمس الحاجة لمشروع فكري جديد تكون الوطنية عماده، ووحدة وبناء وتطوير المجتمع غايته، فإننا أيضاً في أمس الحاجة للاستفادة من تجارب وخبرات وجهود أبناء الوطن الذين عملوا وجاهدوا خلال العقود الأربعة الماضية على التحذير والتنبيه ومحاربة تيار التطرف والانغلاق والتشدد وما يدعو له من تحزبات على أسس طائفية ومذهبية مدمرة للأمم والمجتمعات..
الانغلاق، التصلب، التعصب، التشدد، التزمت، رفض الآخر، مقاومة التغيير، مناهضة التجديد، التذمر الدائم، الاستياء المتواصل، الاستنكار المُستمر، الاعتراض المُجرد، جميعها سمات وصفات سيطرت – إلى حدٍ كبير – على الساحة الفكرية والثقافية والاجتماعية والدعوية والتعليمية خلال العقود الأربعة الماضية حتى تمكنت عبر أدواتها البشرية المُنظمة من سَوق أبناء المجتمع لساحتهم، واستطاعت عبر شبكاتها المُنظمة والممتدة من سلب المجتمع روحه الإيجابية تجاه نفسه وتجاه الآخرين، وتمكنت عبر منابرها المتعددة والمتنوعة من قلب حياة وفكر وروح وتوجه المجتمع من الإيجابية البناءة الى السلبية التدميرية بكل معانيها وصفاتها وسماتها. فإذا كانت هذه هي الحالة السلبية التدميرية التي تمكنت وسيطرت على المجتمع خلال الأربعة عقود الماضية، فإنه من الطبيعي أن تكون أدوات تلك الحقبة موجودة بحكم حداثة الزمن، ومن المتوقع أن يواصل أتباع وأنصار وأدوات تلك الحقبة السلبية جهودهم لمواصلة مشروعهم التدميري بشتى الطرق والأساليب الملتوية والمتلونة. إنها الحقيقة الظاهرة التي يمكن مشاهدتها وقراءاتها للاستدلال على نشاط أدوات وأنصار وأتباع تيار الانغلاق والتزمت والتشدد ومقاومة التغيير حتى وإن أخفوا نياتهم، وغيروا أساليبهم، وأظهروا التعايش – خوفاً وليس اقتناعاً – مع التحول الإيجابي القائم. فإذا كان هذا هو التوصيف الحقيقي للوضع القائم: عمل ورغبة وطنية ومجتمعية للتحول بالمجتمع نحو الانفتاح والتطور والحداثة، يقابلها عمل ورغبة للبقاء في حالة التطرف والانغلاق والانعزال والعيش في الماضي بعيداً عن التطور والحداثة، فما الذي يمكن – يجب – القيام به لضمان نجاح التحول بالمجتمع نحو الإيجابية والتطور والبناء وهزيمة تيار التطرف والسلبية التدميرية؟!
إن ضمان نجاح تحول المجتمع نحو الإيجابية والتطور والبناء والحداثة يقوم في أساسه على أهمية وضع مشروع فكري جديد، تكون أعمدته تعزيز قيم الاعتدال، وترسيخ مبادئ الوسطية، وإعلاء روح التسامح والمساواة والعدالة، وزرع بذور التفاؤل، وتعزيز عناصر الوحدة المجتمعية والوطنية، والتحذير من عوامل الفرقة والاختلاف والتباعد، ومحاربة عوامل العنصرية والعصبية والتطرف الفكري. نعم، إن المجتمع في أمس الحاجة لمشروع فكري جديد يتماشى في روحه مع أصالة روح المجتمع المتمثلة بالاعتدال والوسطية والمساواة والعدالة الاجتماعية والتعايش الإيجابي بين الأمم والشعوب، ويتكامل مع أهداف ومبادرات وبرامج رؤية الوطن المتطلعة للتطور والتحديث والتقدم الفني والتقني والتكنولوجي، ويتوافق مع روح العصر المتمثلة بالانفتاح الإيجابي والهادف والبناء بين مختلف الحضارات. وفي الوقت الذي نؤكد فيه على أهمية وضع مشروع فكري جديد على أُسس سليمة وبناءة وهادفة تعزز روح الوحدة الوطنية، وتعلي من شأن الوطن في نفوس الأجيال الحاضرة والمستقبلية، فإننا نؤكد أن بناء مثل هذا المشروع الوطني العظيم، وضمان نجاحه وتطبيقه على أرض الواقع، يتطلب جهداً وعملاً جماعياً ومشتركاً بين عدد من جهات ومؤسسات الوطن لتتكامل الفكرة وتتضح الصورة وتتوحد الجهود عند التطبيق والتنفيذ والتقييم.
نعم، لقد عملت وبذلت جهات ومؤسسات الوطن جهوداً عظيمة لمحاربة تيار التطرف والانغلاق والتزمت والتشدد، إلا أن هذه الجهود العظيمة كانت وما زالت أُحادية بحيث كل جهة تعمل بمفردها، ولم تكن جهوداً جماعية تقودها استراتيجية واحدة ساهمت وشاركت في وضعها جميع الجهات والمؤسسات المعنية. وهذه الأحادية في العمل التي تبنتها واتبعتها جهات ومؤسسات الوطن مكنت – منحت الفرصة – تيار التطرف والانغلاق والتشدد من توحيد جهوده ورص صفوفه لاستهداف تلك الجهة والمؤسسة الوطنية بتشويه صورتها وتحريف رسالتها، لكسب تعاطف الرأي العام ضد تلك الجهة الوطنية وإثارتهم ضد القائمين على تلك المؤسسة الوطنية والعاملين بها. وهكذا يعمل تيار التطرف والانغلاق والتشدد والتزمت، يستهدف وفق عملية مُمنهجة كل جهة ومؤسسة وطنية تعمل وفق رؤية الوطن بشكل انفرادي بهدف تعطيل مشروعها الوطني، وتحريض الرأي العام ضد القائمين على ذلك المشروع، وتشويه صورة تلك الجهة والمؤسسة لدى أبناء الوطن، وكل ذلك عبر الأساليب والسلوكيات القديمة، والوسائل والأدوات الحديثة، ببث الخطابات العاطفية، والشعارات المضللة، التي تحاكي عواطف ومشاعر ورغبات العامة. وهذه العملية المُمنهجة التي يتبناها تيار التطرف والانغلاق والتزمت والتشدد تتطلب مواجهتها بمشروع فكري جديد تتضمنه وتحتويه استراتيجية وطنية شاملة تعمل عليها وتنفذها جميع الجهات والمؤسسات الوطنية المعنية في وقت واحد وزمان محدد.
وإذا كان المُجتمع في أمس الحاجة لمشروع فكري جديد تكون الوطنية عماده، ووحدة وبناء وتطوير المجتمع غايته، فإننا أيضاً في أمس الحاجة للاستفادة من تجارب وخبرات وجهود أبناء الوطن الذين عملوا وجاهدوا خلال العقود الأربعة الماضية على التحذير والتنبيه ومحاربة تيار التطرف والانغلاق والتشدد وما يدعو له من تحزبات على أسس طائفية ومذهبية مدمرة للأمم والمجتمعات. نعم، ففي الوقت الذي كان فيه تيار التطرف والانغلاق والتشدد يسعى لتدمير واختطاف المجتمع نحو الفرقة والتصدع، كان هناك رجالات مخلصون من أصحاب العلم والدعوة والفكر والثقافة والمجتمع يسعون بعزيمة لتعزيز قيم الاعتدال ومبادئ الوسطية والتسامح والمساواة، ويُجاهدون بفكرهم وعلمهم ووقتهم وما يملكون لتعزيز روح الوحدة الوطنية والمجتمعية إيماناً منهم بأهمية المحافظة على وحدة وسلامة وأمن واستقرار وطنهم. وعندما وقف هؤلاء الرجال – على مدى الأربعة عقود الماضية – موقف التحذير والتنبيه من تيار التطرف والانغلاق والتشدد والتزمت كانوا يعلمون بمدى الانحراف الفكري والعقدي لدى أتباع ذلك التيار المُتطرف، وكانوا يعلمون بمدى خطورته على وحدة وسلامة المجتمع وأمن واستقرار الوطن، وكانوا يأملون أن يتبنه المجتمع ومؤسساته لخطورة ذلك التيار المُتطرف والمنحرف قبل أن يتمكن من تفتيت صفوف المجتمع ويؤثر على سلامة أبنائه ويبث الفتنة بينهم؛ وكل ذلك مكن وجعل أولئك الرجال – الأوفياء لوطنهم والمخلصين لقادتهم – يتحملون في سبيل وحدة وسلامة وطنهم هجمات وتعديات وبذاءات وتشويهات التيار المُتطرف لصورتهم وسمعتهم وعلمهم وفكرهم ومكانتهم الاجتماعية.
وفي الختام من الأهمية القول: إن الأعمال العظيمة التي تقوم بها مؤسسات الوطن في سبيل القضاء على الفكر المُتطرف وأدواته وعناصره في حاجة ماسة لأن تُتوج بمشروع فكري جديد قادر على إقناع أجيال الحاضر والمستقبل بقيم الاعتدال والوسطية والتسامح والمساواة والعدالة الاجتماعية، وقادر على تعزيز الروح الوطنية الجامعة ليكون الوطن وقادته هو الأصل والأساس دون ما سواه من أوطان. إننا أمام مرحلة تاريخية حاسمة تتطلب عملاً جماعياً، وجُهداً عظيماً، وإصراراً متواصلاً، لنتمكن من احتواء أجيال الحاضر والمستقبل فكرياً وثقافياً ودعوياً وعلمياً واجتماعياً بحيث لا نجعل للفراغ مكاناً، وإلا ستكون العودة للمربع السلبي شبه حتمية.
التعليقات