الثقافة العميقة، كما أراها، عفوية يصعب إدارتها ولا يستحيل توجيهها، لكنها تعتمد في الأساس على "الشغف"، ودون هؤلاء الذين يملكون هذه الرغبة والعشق لما يقومون به لا يمكن أن تتشكل هذه الثقافة. هذا يجعلني أنظر إلى العمل الثقافي المؤسسي بتوجس، فهل يمكن أن يولّد مثل هذه الثقافة أو أنه سيحدّ من ظهورها..
الحديث عن الثقافة بشكل عام يجرنا بشكل أو بآخر إلى التعريفات المتعددة لهذا المصطلح متعدد الأوجه، لكن بصورة عامة أتفق كثير من الباحثين على أن الثقافة هي ما ينتجه الأفراد من فنون وعادات وتقاليد وسلوكيات تشكل هوية المجتمعات وتطبعها بطابعها وتشكل هوياتها. وبما أن الحديث هو عن الثقافة، يجب أن أقول إن تناول مصطلح "الثقافة العميقة" ليس متداولاً بشكل واضح، كما أنه غير معرّف تعريفاً دقيقاً يمكن الاطمئنان له، لكن أستطيع القول إن مفهوم الدولة العميقة والمدينة العميقة وحتى الثقافة العميقة يتحدث عما هو غير ظاهر، وربما عن العمل غير المؤسسي الذي يمكن أن يؤطر العمل الثقافي ويحدد معالمه في مجتمع ما. يقودنا هذا التصور إلى القول بأن الثقافة العميقة هي نوع من ممارسة إنتاج الفنون وصناعة الأفكار وبناء المهارات والسلوكيات بشكل شبه عفوي يمكن أن ينتج عنها حالة ثقافية عميقة تعيد إنتاج هوية المجتمع في لحظة تاريخية ما. ويبدو أن هذه الحالة الخاصة تتطلب وجود نابهين يعون قيمة توليد هذه الثقافة في مجالاتهم وينقلونها إلى مستويات عليا يمكن أن تتشكل عنها هوية ثقافية خاصة.
قبل أيام قليلة دعانا الصديق فؤاد الذرمان، وهو معماري وكان له دور بارز في نشأة مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي (إثراء)، إلى منزله، وكانت الدعوة مخصصة لنخبة من المنشدين والمتخصصين في المجسات والموال بينهم الفنان الكويتي حمود الخضر والجسيس وخبير المقامات السعودي بسام لبان وعدد من المهتمين بفن الصوت، ربما أبرزهم المنشد السعودي سمير البشيري، وكذلك الشاعر حيدر العبدالله، وليعذرني بقية الزملاء الذين لم أذكر أسماءهم. ما لفت نظري أن هذه المجموعة تربطهم جميعاً علاقة معرفية وتعليمية، ونحن الغرباء بينهم، فهم يتابعون أعمال بعضهم البعض منذ فترة طويلة ويعملون على تطوير مهاراتهم، رغم أنني لم أسمع من قبل أنهم نظموا منتدى أو مؤتمراً لفن الصوت والمجسات، لكن استطاعوا أن يطوروا روابط خاصة تجمعهم، فكل واحد يعرف تاريخ الآخر ويحفظ بعض إنتاجه. الجدير بالذكر أن ملامح أي ثقافة عميقة تتشكل من وجود مثل هذه الروابط التي تنشأ بين مجموعة من المهتمين يتجاوزن بها حدود مؤسسة الثقافة ويتفوقون على منتجاتها، بل ويقودون كثيراً من الأفراد لاكتساب مهارات جديدة وتطويرها في مجالاتهم.
وجود شاعر متمكن وثلاثة من المعماريين أحدهم عصام توفيق، أحد قيادات أرامكو السابقين، بين المدعوين وسّع الحوار إلى العلاقة بين الفنون المختلفة، فبعد أن استمتعنا باستماع بعض المجسات وبعض المواويل والابتهالات من المنشدين، ألقى الشاعر حيدر العبدالله قصيدة حول بناء المسكن مثيرة لكن سأتحدث عن ربطه للتناظر في العمارة بالجواهري والأشكال الحرة بالسياب، فالجواهري شاعر قافية عمودي يمكن أن نطلق عليه شعر متناظر، بينما السياب يعتمد التكوينات اللغوية الحرة في شعره. مقارنة ذكية، ففي بداية اللقاء سألني العبدالله: هل يمكن اعتبار العمارة شعر؟ في الحقيقة أن هذا السؤال جعلني أعرج على ماهية شاعرية العمارة والخطاب الجمالي غير المنطوق الذي تبعث به إلى المتلقي. لكن سؤال فؤاد الذرمان حول أوجه الشبه بين الإنشاد وبين العمارة أعادني إلى الإشكالات التي تواجهها العمارة في تحديد ماهية الجمال وكيفية تذوقه كونها وسط للحياة تتنوع فيها الوظائف وتتغير داخلها طبيعة المستخدمين.
قد نكون وصلنا إلى اتفاق إلى أن ما يميز الإنشاد الكلمات واللحن وحسن الأداء وكريزما المنشد"، لكن العمارة تحتاج إلى الوظيفة وإلى المتانة (التقنية)، لكنها تحتاج كذلك إلى الجمال الذي يرتبط بعمق بالمفردات واللغة البصرية وتحتاج إلى الهيبة (الكريزما) ولا يعني ذلك الضخامة لكن في كثير من الأحيان تفضي البساطة الشديدة إلى صدمة الهيبة. من المعروف أن الفنون وحتى العلوم، حتى تتطور، لابد لها أن تتجاوز حدودها الضيقة إلى الفنون والعلوم الأخرى، وغالباً ما تتصاعد تحديات ابتكار الجديد من خلال هذا التجاوز. يجعلني هذا أوجّه النقد إلى المعماريين الذين لم يستطيعوا حتى الآن خلق مفهوم "الأستذة" أو صناعة وسط ثقافي ينقل فيها الجيل المتقدم خبراته إلى الجيل المتأخر، ولم يحققوا حتى هذه اللحظة ما يمكن أن نطلق عليه "ثقافة معمارية عميقة" يمكن أن تساهم في تصحيح المنتج المعماري.
الثقافة العميقة، كما أراها، عفوية يصعب إدارتها ولا يستحيل توجيهها، لكنها تعتمد في الأساس على "الشغف"، ودون هؤلاء الذين يملكون هذه الرغبة والعشق لما يقومون به لا يمكن أن تتشكل هذه الثقافة. هذا يجعلني أنظر إلى العمل الثقافي المؤسسي بتوجس، فهل يمكن أن يولّد مثل هذه الثقافة أو أنه سيحدّ من ظهورها. ومع ذلك يجب أن أقول لولا فعاليات العيد في إثراء لما تحقق مثل هذا التجمع، فعندما تتحول المؤسسة إلى "عين لاقطة" للمواهب وتعمل على تقديمهم للمجتمع سيكون هناك فضاء آخر للثقافة لا نستطيع رسم حدود له.
التعليقات