ثمة اتفاق على أن أحد أهداف المحافظة على المعالم التاريخية للمدن (القديمة والحديثة) يعني بشكل أو بآخر المحافظة على ولاء سكانها وزوّارها لأمكنتها، لأنها تبث فيهم الرابطة المكانية دون أن يشعروا بذلك. لذلك عندما تتكسر "أركيولوجية المدينة" وتتفتت أمكنتها غالباً ما تضعف فيها الروابط المكانية ويصبح الحنين مجرد "أساطير" تحكي حكايات عن أمكنة غير موجودة..
أحياناً تعلق في ذهننا رائحة تميز مكان ما، ولا نستطيع أن ننسى المكان بسبب رائحته المميزة، وأحياناً أخرى تتشكل صورة المكان في مجموعة من الناس حتى أننا لا نتصور المكان دون وجودهم، ورغم أن المكان يبقى والرائحة والناس يذهبون إلا أن تلك المشاهد والمشاعر المؤقتة تعلق في الذهن وتصنع حالة من الرغبة في معاودة التجربة. وحتى لو لم تتكرر التجربة بحذافيرها لكن هناك ما يدعو إلى تحفيز الذاكرة نحو مكان ما لأنه يمثل تجربة مكانية مرغوبة. على أن هناك ما يمكن أن ندعوه خفوت التجربة أو تراجع الانبهار، وهذا في حد ذاته يمثل نوعاً آخر من التجربة المكانية التي تعبر عن "السأم المكاني"، فعندما يفقد المكان ما يدعونا إلى زيارته يتحول إلى "لا شيء" في ذاكرتنا.
زياراتي الكثيرة لمدينة باريس لم تطور علاقتي بالمدينة كثيراً وظلت تدور حول أماكن متفرقة لا تربط بينها روابط عميقة، هذه الملاحظة أثارتني كثيراً خصوصاً عندما أقارن علاقتي بباريس مع مدن كثيرة حول العالم أقل حظاً منها في التاريخ والثقافة وصناعة المكان. حاولت أن أبحث عن الأسباب التي تجعل هذه العلاقة في أدنى درجاتها، رغم أنني أدعي أنني أملك مهارة مقبولة في بناء العلاقة مع المكان وساكنيه. وإذا ما عرفنا أن علاقة الأنسان بالأمكنة تتطور وتزداد متانة مع تردده على تلك الأمكنة، فهذا يثير المزيد من الأسئلة والحيرة فعلاقتي بباريس رغم زياراتي الكثيرة لها ظلت ملامسة لسطح المدينة ولم تتعداها إلى ثقافتها ولم تصل إلى درجة الكشف عن بواطنها. ثمة اتفاق بين المهتمين بدراسات المكان أن هناك خصائص جوهرية تملكها بعض الأمكنة تجعلها قادرة على التغلغل داخل قلوب وعقول زوارها وربطهم بها والتسلل إلى ذاكرتهم وتشكيلها من الداخل وإجبارهم على البحث والكشف عن أسرارها، بينما لا تملك أخرى هذه الخاصية. ويبدو أن باريس، كمكان وكمدينة لم تستطع التسلل إلى ذاكرتي رغم عشقي لتفكيك المكان والكشف عن ثقافته. على أن الإشكالية ليست علاقتي بمدينة مثل باريس، بل في الكيفية التي تتشكل بها "الرابطة المكانية" التي تختلف من إنسان إلى آخر.
في المقابل ما زلت أتذكر تفاصيل زيارة وحيدة قبل سنوات للعاصمة الكوبية هافانا، تفاصيل المدينة القديمة والبيت العربي ومسجد الجمعة الوحيد في المدينة ضاربة بصورها في ذاكرتي. يبدو أن بعض الأمكنة لها مذاق خاص وتملك مقومات الرابطة المكانية Place Attachment والواقع أن هذه الخاصية ليست في المكان فقط بل هي جزء من الخبرة التي يبنيها الإنسان داخلياً وتمثل عصب الذاكرة التي توجه قراراته وميوله، فكل رابطة مكانية تكون ناشئة عن خبرة سابقة بشكل أو بآخر، وبالتالي فإن مواقفنا من الأمكنة غالباً تحدد استعدادات داخلية لدينا، نستطيع أن نميز بها ما يلفت انتباهنا في المكان. هذا التحليل جعلني أتساءل عن الأسباب التي تجعلني في حالة عدم وفاق مع باريس وهي المدينة التي يعشقها الكثيرون، ووجدت أن هناك مفاتيح لكل مدينة تبدأ بمكونها الثقافي وتاريخها، فإما أن تفتح هذه المفاتيح أسرار المدينة أو تغلقها إلى الأبد.
في الثلث الأخير من شهر أبريل الفائت (رمضان) ذهبت لباريس لعدة أيام لمقابلة لجنة تحكيم جائزة اليونسكو/عبدالله الفوزان لتشجيع العلماء الشباب في العلوم والتقنية والهندسة والرياضيات (ستم)، وصدف أن مررت ببرج إيفيل عدة مرات، ولم أرفع رأسي لمشاهدته، وكنت قد فقدت الاهتمام بكثير من المعالم في هذه المدينة منذ فترة طويلة، ولا أعلم لماذا هذه الجفوة. من المتفق عليه أن "الرابطة المكانية" هي مولّد لعلاقة عميقة وحميمية بين الإنسان والمكان، فهي تعمل على تحريض الإنسان على معاودة الزيارة وتعمل على تجديد المشاهدة، فإذا انعدمت هذه الرابطة غالباً ما يفقد الإنسان الإحساس بقيمة المكان. ولكن ما الذي يجعل الرابطة المكانية تضعف وتتفكك، ولماذا يفقد البعض اهتمامهم بأماكن كانوا يرتادونها في السابق وكانت تربطهم ذكريات معها؟
تتقاطع الرابطة المكانية مع مفهوم "الحنين"، فأن تحنّ إلى مكان ما، يعني هذا أنك كونت رابطة عميقة معه. كما أنها تتقاطع مع مفهوم "الهوية" فالبحث عن الهوية المعمارية يعني بصورة أخرى البحث عن الرابطة المكانية، أو عن الخصائص التي تميز هذا المكان الغائر في الذاكرة التي تجعله أليفاً وقريباً من النفس. ثمة اتفاق على أن أحد أهداف المحافظة على المعالم التاريخية للمدن (القديمة والحديثة) يعني بشكل أو بآخر المحافظة على ولاء سكانها وزوارها لأمكنتها، لأنها تبث فيهم الرابطة المكانية دون أن يشعروا بذلك. لذلك عندما تتكسر "أركيولوجية المدينة" وتتفتت أمكنتها غالباً ما تضعف فيها الروابط المكانية ويصبح الحنين مجرد "أساطير" تحكي حكايات عن أمكنة غير موجودة.
التعليقات