بنيت رواية "الطريق الى تل المطران" ل"علي بدر" على فكرة المغامرة السردية، اذ يتوهم الراوي - البطل الارتحال الى مكان غريب عليه، فيستكشفه، ويعود منه بتجربة اعتبارية. وفكرة الارتحال اقترنت بالأدب منذ القدم، اذ بالارتحال يمكن التعرف الى تجربة مغايرة، وحدث مختلف، وغالبا ما ينخرط ابطال ادب الارتحال في المجتمع الجديد دون ان يندمجوا فيه، وفي معظم الأحيان تدفع بهم المصادفات الى المغامرة، وذلك ربما يكون مرتبطا بحقبة التفكير السحري؛ اذ تتهيأ للبطل ظروف مساعدة للوصول الى المكان الجديد، وقد تساعده ايضا في العودة كما يقع في الآداب الشعبية والخرافية. وهذا النظام السردي شائع في الآداب القديمة، ونجد له تجليات كثيرة في الآداب الحديثة. فكل سرد انما هو وصف لتوازن، ثم فقدانه، والعودة ثانية اليه. والشخصيات في الأدب السردي لا تحتمل فقدانا مطلقا للتوازن، وهي غير مؤهلة لخوض مغامرة كاملة تنزلق بها الى منطقة غياب التوازن الدائم، بل ان عملية استكشافها للعالم الجديد الذي تصل اليه لا تتم من ناحيتها بدواعي الرغبة المسبقة للاكتشاف، انما يقع الاكتشاف بناء على سلسلة احداث تدفع الشخصية اليها دفعا، ولا تختارها، الا على سبيل الفضول، او التوهم. ورواية "الطريق الى تل المطران" تمتثل لهذا النظام في بنائها السردي العام، فالأحداث هي التي تقود الشخصية الرئيسة الى المغامرة، وليس الشخصية هي التي تخلق الأحداث، وتدفع الآخرين للمشاركة فيها. وامتثال الرواية لهذا النظام القابع تحت سيل الأحداث والوقائع لا صلة له بقيمتها الفنية، انما له صلة بالتجربة الاعتبارية للشخصية الأساسية فيها، فإذا ما اخذنا بالحسبان ان روايات الارتحال غايتها استخلاص فكرة من طيات المغامرة، فقد نجحت الرواية في تمثيل سردي عميق لفكرة الشر والخير، والمتعة، والجمال، والتحولات الفكرية للشخصيات، لكنها تحولات تدفع بها الشخصيات الثانوية، وتقوم بها، وتتلقاها الشخصية الرئيسة بنوع من القدرية والتسليم، وكأنها منقادة لرغبة غامضة في خوض مغامرة يرسمها الآخرون مثل: صافيناز، وشيميران، والقاشا. ومع ان تغييرا وقع للشخصية الرئيسة في نهاية الأحداث ولكنه ليس جذريا بحيث يكافئ نوع المغامرة، ولهذا يستعين النص بما يمكن الاصطلاح عليه ب"الوهم المضاعف" اي ان يستفيق الراوي - البطل من "الوهم" الأول، ثم يقوم مرة ثانية صحبة صديقته الكلدانية "ليليان" برحلة للتحقق مما حصل له في المرة الأولى. وفي الحالين نحن بإزاء اوهام سردية مضاعفة غايتها تعميق البنية الدلالية للمغامرة من خلال اختلاق حكاية على خلفية مكان تاريخي يرتحل اليه البطل من بغداد الى شمال العراق. وتتخلل الرواية افكار كثيرة، فالشخصية الرئيسة مرآة تنعكس عليها افعال الشخصيات الأخرى، ولهذا شغلت بوصف كل ما تمر به مع ان علاقتها العابرة بالأمكنة لا تؤهلها لملاحظته كل تلك التفاصيل وتفسيرها، وهو ما حال، فيما نرى، دون مساعدتها على تمثل فكرة التحول، فانشغالها بوصف الأشياء خرب عملية كشف الحالات - وهو امر كان ظهر في رواية "بابا سارتر" للمؤلف نفسه - وباستثناء "القاشا" فقد ارتسم التحول بأقل مما تحتاجه شخصيات شديدة الأهمية مثل "شميران، وفريدة، وتيمور، وجولي، ودانيال، وريزان، وبياتريس". فالشخصيات تعرض من خلال عيني الراوي على خلفية مفصلة الأوصاف. ومع ذلك فهذه الرواية تقطع الصلة مع كثير من نماذج الرواية العربية، فهي تقوم على فكرة الحركة، والبحث، والاكتشاف، وتتخلى عن الرتابة المهيمنة في السرد العربي الحديث، كما ان التصريح بمواقف الشخصيات، ورغباتها، وتقلباتها بين فكرة الخير والشر، يجعلها نصا حاملا لأطروحة اكتشاف جماعة بشرية خاصة، وهذا يندرج ضمن ما استجد من وظائف الرواية الحديثة اذ اصبحت اداة بحث في قضية اجتماعية او تاريخية او ثقافية اكثر مما هي حكاية شفافة متخيلة غايتها الامتاع، واختلاق الوهم. وصار من الصعب قبول الرواية بعيدا عن السياق الحاضن لأحداثها.
تفتقر الرواية العربية، في العموم، إلى الحركة السردية البارعة التي تقيم صلة قوية بين الأحداث والشخصيات من جهة والمتلقين من جهة أخرى، فالسرد التفسيري الرتيب، والبناء المتتابع للأحداث، وتعقب تاريخ الشخصيات، جعل الرواية العربية، في معظم نماذجها، رواية تكوين. وتطمح رواية "الطريق إلى تل المطران" إلى تخطي كل ذلك، إذ تتبنى تقنية السرد الإطاري الذي تندفع المغامرة السردية من عمقه، ثم البحث في قضية أخلاقية على خلفية جماعة دينية لها طقوسها وتقاليدها الخاصة، دون نسيان علاقاتها بالجماعات الأخرى المجاورة لها.
يقترح السرد الإطاري فكرة المغامرة، ولهذا يظهر مستويان للسرد، المستوى الحاضن للمغامرة، ومستوى المغامرة نفسها. يذهب الراوي. وهو قارئ نهم لكتب التنجيم، والأبراج، والروحانيات، والتصوف - إلى المكتبة البريطانية في بغداد لاستعارة كتاب للسير "كارما" عن أسرار الكف، ومعرفة الطالع، فيلتقي سيدة غامضة من أصول تركية تدعى صافيناز عبدالرحمن أوغلو "فتقترح عليه أن يذهب إلى مدينة" تل المطران "في شمال غرب الموصل، ليتولى تعليم أطفال بيعة الكلدان الكاثوليك اللغة العربية. وتكتب له توصية موجهة إلى راعي الكنيسة الأب عيسى اليسوعي. كان الراوي جنديا سابقاً، فتقلب في أعمال كثيرة بعد تسريحه من الجيش، وأخيرا وجد نفسه عاطلا، ومفلسا، فاستغرقته كتب الروحانيات. لقد انزلق إلى الأوهام، ولهذا لا يبدي أية ممانعة، إذ اكتسحه الحضور الجارف للسيدة الغامضة، فأخذ بمقترحها. هذا الإطار السردي يرسم احتمال مغامرة تعيد بها الشخصية توازنها المفقود. تقع الشخصية تحت التأثير السحري المشع لتلك السيدة الغامضة، فتنقاد لتأثيرها، وتستجيب لها بدون وعي لقد شوش عليها، وفقدت تماسكها، فاخترقها السحر، وسرعان ما تختفي السيدة بعد أن ترشد الراوي إلى كيفية الوصول إلى تل المطران.ينتهي السرد الإطاري بأن تتدخل أمينة المكتبة "إيفون نادر" فتضبط للراوي زمن السرد حينما تقترح أن يكون تاريخ ارجاع كتاب السير "كارما" بعد عودته من تل المطران. لكن الراوي لا يعود إلى المكتبة بعد ذلك، ولا يعيد الكتاب، فالمغامرة التخيلية تقترح لها بداية ولا حاجة لأن تقفل بنهاية. يعيش الراوي تجربة ذهنية متوهجة "شعرت كأني عبرت الطريق الشاق للنهر السحري الذي لا يتجاوز عرضه قيد أنملة. كان وجهي في المرآة أصفر مريضا مثل قيء متجمد، وروحي مثقلة بأبخرة أرجوانية شبيهة بأبخرة تتصاعد من معدن ذائب". وفي النهاية ينقاد لتنفيذ مضمون الإيحاء "لم أكن قادراً على مواجهة هذه الإرادة التي تدفعني بقوة نحو شيء مرسوم في يدي، وملتصق بها مثل خط التيزاب". يتحقق مضمون المغامرة في جو من الحركة الكابوسية، وهي مغامرة لا يمكن البرهنة عليها عجزت رغم البلاغة المهيبة التي رويت بها هذه الأحداث عن وضع إطار محكم لتصوراتي، كنت أشعر بأنني افتقر إلى المضمون، وأن ماعشته هو مشروع خداع رهيب، بل هو نهاية لتذبذباتي العميقة لم تنجح الشخصية الرئيسة بإعادة التوازن بكامله، كما هو معروف في الآداب السردية، فالذبذبات العميقة تمضي بالشخصية إلى منطقة التوهم والقلق، على الرغم من إصرارها البرهنة على المغامرة الوهمية. ينبغي علينا أن نأخذ بالحسبان بأن السرد الإطاري نجح في رسم صورة شخصية قلقة، هشة، فيها ملمح من جنون الثقافة، وفضول المجازفة، وتنتهي وظيفة ذلك السرد لتظهر الأطروحة الكامنة في قلب المغامرة، وهي أطروحة بحث وكشف، فالشخصية الرئيسة تضيء عتمة اجتماعية وثقافية، وتتفاعل مع ذلك، وتكشف عن تحولات قيمية وجمالية، إذ تنخرط الشخصية بالمجتمع الذي وصلت إليه ولكنها لاتندمج فيه. من الصحيح أنها لاتحقق أيا مما جاءت من أجله، لكنها بازاء ذلك تستبدل بالمال رغبة الاكتشاف. وهذه الرغبة تجري نوعا من التحول لديها، فكلما انزاح حجب الأسرار أمامها انخرطت في أفعال متلاحقة تجعل منها شاهدا ومشاركاً في الأحداث. وعرض الأحداث من منظورها يسبغ عليها رؤى جمالية وثقافية لا صلة لها بمجتمع الرواية إنما بالذوق الجمالي للراوي - المؤلف. وهذا يدفع بالرواية خطوة إلى منطقة الأدب الذهني الذي دشنه المؤلف في رواية "بابا سارتر".
www.abdullah-ibrahem.com
1
سعد كاظم
2006-10-12 21:08:21تحية يا دكتور عبد الله إبراهيم
وأنت واحد من مفكري العرب الكبار في السرد
فكرتك أعجبتني عن الفرق بين السرد الساكن والسرد المتحرك، في الواقع كلنا تقريبا يقرأ روايات علي بدر، بسبب توفرها على الحركة، فالبطل يتحرك ويتحرك حتى تنتهي الرواية، وفي إحدى المقابلات معه قال إنه لا يريد أن يتوقف البطل فالسكون بالنسبة له هو الموت بعينه، وأنا أعتقد أن هذا عنصر مهم من عناصر التشويق، فالتشويق الذي تخلت عنه الرواية العربية وضعها في مهاوي المجهول، ويظهر لنا علي بدر بنمط من الرواية الجديدة، وهذا ما جعلنا في البحرين كقراء نقبل على رواياته على خلاف الكثيرين من الروائيين العرب من جيله ومن الجيل السابق، تحية لك يا دكتور عبد الله إبراهيم وفي تحليلك الكثير من الصدق
سعد كاظم
المحرق