في مبنى اليونسكو أبديت ملاحظاتي على المبنى وقلت لصديقي إنه مبنى يعبّر عن تراجع الإبداع المعماري لمدرسة الحداثة فقد صمم المبنى ثلاثة معماريين من فرنسا وهنغاريا وإيطاليا وراجع المبنى خمسة معماريين آخرين بينهم "والتر جربيوس" و"ليكوربوزييه" وهما من عمالقة الحداثة، والعمارة المبدعة لا تتحمل كل هذا العدد من المعماريين ليعملوا على تصميم مبنى واحد..

توقفت عند لوحة "بابلو بيكاسو" في البهو الرئيس لمبنى اليونسكو في باريس، فهذه اللوحة الشهيرة أُعلن عنها مع تدشين هذا المقر عام 1958م، وقد وكان "بيكاسو" واحداً من أحد عشر فناناً طلبت منهم المنظمة أن يزينوا مبناها الجديد في قلب العاصمة الفرنسية. بالنسبة لي هذه أول مرة أتوقف عند هذه اللوحة المهمة (رغم أنني لا أتذوق رسومات "بيكاسو" كثيراً)، لكن بحكم تأثير هذا الفنان المهم على الفن الحديث، فقد وجدت نفسي أتوقف طويلاً لأفكر في السبب الذي يجعل من مؤسسات الأمم المتحدة تتحول إلى متحف للفنون البصرية، فقد لاحظت أن مبنى الأمم المتحدة في نيويورك يعج باللوحات من مختلف دول العالم. صديقي "اليونسكي" قال لي إن كثيراً من الدول تهدي قطعة فنية لليونسكو تعبر عن هويتها الوطنية، ويمكن اعتبار المقرات الأممية متاحف عالمية للفنون. خصوصاً الفنون البصرية الحديثة التي سادت منذ مطلع القرن العشرين.

أكدت له أنه يجب قراءة المقتنيات البصرية في هذا المبنى على أنها تعبر عن بحث الرسامين عن "الروح الخفية" للأشياء مع انهيار واقع الأشياء في العالم بعد الحرب. فالفنان "بول كيلي" يقول "يمتد الشيء إلى ما وراء مظهره"، وقد حاولت أن أبين أن ما نراه في أروقة اليونسكو يعبر عن لحظة جامدة تعيد، في رتابة، كيف كان يفكر العالم في منتصف القرن الماضي. لقد كان الفن والعمارة يبحثان عن خارج التعبير المباشر لأن العالم سئم من رسم الواقع وصار يعبر عن "الكوابيس" المزعجة التي عاشها، فالسريالية، التي أسسها الشاعر الفرنسي "أندريه بريتون" هي جمع المتناقضات في مكان واحد وكأنها انعكاس لكابوس حقيقي عاشه الفنان وصوره في رسوماته. لذلك يعتقد "بريتون" "أن التناقض الظاهري بين الحلم والواقع يمكن حله باللجوء إلى نوع من الحقيقة المطلقة - السريالية".

أثناء سيرنا في مبنى اليونسكو أبديت ملاحظاتي على المبنى وقلت لصديقي إنه مبنى يعبر عن تراجع الإبداع المعماري لمدرسة الحداثة فقد صمم المبنى ثلاثة معماريين من فرنسا وهنغاريا وإيطاليا وراجع المبنى خمسة معماريين آخرين بينهم "والتر جربيوس" و"ليكوربوزييه" وهما من عمالقة الحداثة، والعمارة المبدعة لا تتحمل كل هذا العدد من المعماريين ليعملوا على تصميم مبنى واحد. المبنى يعبر عن الفترة المتأخرة للحداثة بعد الحرب العالمية الثانية وصعود طراز "العمارة الوحشية" التي صارت تنتج مباني ضخمة جداً من حيث الحجم وتركز على مادة الخرسانة المكشوفة. قادني هذا الحوار إلى أن كثير من الناس تعمل وتعيش في مباني ظهرت نتيجة لظروف سياسية وثقافية واقتصادية وحتى اجتماعية محددة وتحمل داخلها بذور تفسير هذه الظروف لكنهم للأسف لا يشعرون بها وربما لا يكترثون بها. قلت في نفسي ربما نحن المعماريون نعطي قيمة للعمارة أكبر مما ينبغي.

إحدى ملاحظاتي الرئيسة هي الفرق بين الفن التشكيلي الذي يتزين به المبنى والتكوين المعماري، الذي ربما كان مهماً في وقته. الفن البصري كان يعبر عن الصراع بين الواقع والتجريد، فالمدرسة الواقعية لم تعد تكفي لتعبر عما يحتدم من مشاعر داخل النفس البشرية بعد كل الحروب التي مروا بها في النصف الأول من القرن الماضي، بينما العمارة كانت تدور في فلك التعبير المباشر رغم تأثرها بالتجريد لكنه كان تجريداً سطحياً يركز على فلسفة "الشكل يتبع الوظيفة"، دون أن يحاول أن يتجاوز هذه الفلسفة النفعية التي أدت إلى تردي العمارة في الخمسينات والستينات على مستوى العالم. قلت لصديقي: أنتم تعيشون في مبنى يبين بوضوح انتقال البشر من التعامل مع الواقع إلى صناعة الرموز وكأنهم يستعيدون ثقافتهم البدائية من جديد.

قبل مغادرتي لباريس كان هناك معرض مشترك يجمع بين الفنان السريالي "سلفادور دالي" والمعماري السريالي "قاودي" وكلاهما من أسبانيا، وقد يعترض البعض على تسميتي "قاودي" بأنه معماري سريالي، فهو معروف بريادته لـ"الآرت نوفو" أو الفن الجديد. قررت الذهاب للمعرض لأن مكوثي في مبنى اليونسكو فترات طويلة في الأيام السابقة جعلني أفكر أكثر في هذه العلاقة الوشيجة بين السريالية والعمارة في النصف الأول من القرن العشرين وصعود الفن التجريدي الذي أحدث شرخاً عميقاً في تقبل المعماريين للعمارة بأشكالها الواقعية. خلال زيارتي للمعرض، وقد كان عبارة عن عرض بصري تجريدي على جدران قاعة كبيرة مفتوحة يزيد من تجريدية الفنان والمعماري معاً، جلست في ركن أشاهد أحلام الفنان "دالي" والمعماري "قاودي" أو كوابيسهما وأقول في نفسي "ما الذي يدعو الإنسان كي يصنع أفكاراً خارجة عن سياق العصر الذي يعيش فيه؟".