القائد الفذ، له شأن وأي شأن، ولكنّ شأنه ذاك مرتهن باستجابة الناس له، وقيامهم معه، وذاك هو السبب بعد الله تعالى في قيام هذا الكيان الوطني، وخيراته التي ينعم بها، وبه يستمر عطاؤه، وتمتد أيامه، وتعظم إنجازاته، وإذا كنّا اليوم نستعيد تلك اللحظة التاريخية، ونسعد بما كان فيها، فينبغي علينا أيضاً أن نستحضر سببها، ونجعله لنا رائداً في حياتنا الجديدة، فنأسو به ما نستطيع، ونُعالج به ما نقدر عليه، ونحتفظ بما حصّلناه..
الفلسفة (الحكمة) هي البحث وراء الأسباب الأولى للأشياء والأفكار، هكذا أجمع الحكماء المتقدمون أو كادوا، وفي الناس جميعاً طبعُ البحث عنها، لأنهم يحبّون معرفة علة الخير والشر، فيطلبون الأولى، وينزجرون عن الثانية، ويسعون بعد المعرفة بهما إلى تأبيد الخير عبر استبقاء علته، واستبعاد الشر عبر التجافي عن سببه، هذا هو الذي يجعل الفلسفة، وهي البحث وراء العلل الأولى، جِبلّة بشرية، وليست شيئاً غريباً عن البشر، يحتاجون فيه إلى مَنْ يُرشدهم إليه، ويدعوهم للأخذ به، وما يمنعهم منه، ويجعلهم يُعاصون من يناديهم إليه، إلا غرابة لفظه والتوجس من تجارب الناس فيه! وهم لو نظروا في حياتهم، وتأمّلوا ما يأتونه عفو الخاطر، لوجدوا أنّ الحكمة (الفلسفة) شيء راسخ فيهم، غائر في ضمائرهم، وما فيهم من قوة أن يعيشوا دونه، ويستقلّوا بأنفسهم بعيداً عنه، وذا يجعل من الحتم عليهم أن يبحثوا وراء ما هم فيه من نعم وخير حتى يعرفوا سبيل بقائها ودوام نفعها، وما أحكم من امرئ يتبصّر بحاله، فيأتي ما ينفعه، ويذر ما يضره، ويسعى طاقته أن تدوم خيراته، وتنجلي عنه غمراته، وتلك هي الحكمة التي سعى لها الأولون وسيسعى لنيلها الآخرِون.
نحن في نعمتين: نعمة الوحدة والاجتماع، ونعمة الأمن والاستقرار، وهما رأس النعم ومبدؤها، وما فينا من نِعم الله تعالى الكثيرة؛ فمردّها بعده إليهما، ومرجعها بعد تفضله سبحانه لهما، وخير ما نُقدّمه لهما بعد شكره تعالى والثناء عليه؛ أنْ نجهد وراء عللهما، ونسعى خلف أسبابهما، حتى ننتهي إلى دوامهما، ونخلُص إلى ما نُحبّ منهما، فتبقى نعمنا، وينعم بها مواطنونا، ونُعين بها غيرنا.
وهاتان النعمتان، وغيرهما من النعم، تقف وراءهما نعمة التعاون بين الجماعة والتكاتف بينها على الغايات، فلولا الله تعالى ثم التعاون بين الإمام المؤسس والأجداد ما كان لهذا اليوم الوطني وجود! فالشراكة في التاريخ الإنساني تقف وراءها جميع الإنجازات البشرية، وفي استطاعة المرء أن يضرب نماذج كثيرة لهذا، يُوضح بها الفكرة، ويستدل بها عليها، فيُورد من حياة البشر وإنجازاتهم، ويستعرض من ثمار جهودهم، ما يُقرّب المعنى ويُدني الفكرة، وخير مثال وأَدلّه على المطلوب سيرة الأنبياء عليهم السلام في التاريخ.
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا حسب الحديث الصحيح طائفتين: الأولى اجتمعت حولهم الناس، نصروهم وعزّروهم، فكان لدعوتهم شأن وذيوع، وانبنى عليها مجتمع وجماعة، فنمت مصالح الناس، وقامت معايشهم. والثانية "والنبي وليس معه أحد" لم يُقدّر لها الأنصار والأعوان، فانتهت كما بدأت، لم تُخلّف أثراً، ولم تُعقب كياناً، والفرق بين الطائفة الأولى والثانية بعد توفيق الله تعالى وعونه هو أن الأولى رُزقت بمن يقوم مع صاحبها ويُناضل دونه، ولم تُرزق الثانية ذلك، وما أكثر التجارب التي فشلت، وانتهت همم أصحابها إلى غير ما كانوا يرجونه، والسبب الظاهر للجميع هو أن الناس انصرفوا عنها، ولم يُقدّر لها تأييدهم ومُمالأتُهم.
وهكذا كل دعوة، ومن حكايا التاريخ القديم أنّ الشاعر امرأ القيس بعد معاركه مع بني أسد واستمراره في طلب ثأره؛ انفضّ عنه الناصر، وتركه المعين، فلم يجد بُدّا من أن يستنجد بملك الروم، ويقصد مملكته، لعله يُعينه ويُمدّه بجند من جنده، فخاب ظنه فيه، ومات في طريق عودته، وبقي لنا من رحلته قصيدته التي منها قوله:
بكى صاحبي لَممّا رأى الدربَ دونه... وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلتُ له: لا تبكِ عينُك إنما... نُحاولُ ملكا أو نموتَ فنُعذرا
القائد الفذ، له شأن وأي شأن، ولكنّ شأنه ذاك مرتهن باستجابة الناس له، وقيامهم معه، وذاك هو السبب بعد الله تعالى في قيام هذا الكيان الوطني، وخيراته التي ينعم بها، وبه يستمر عطاؤه، وتمتد أيامه، وتعظم إنجازاته، وإذا كنّا اليوم نستعيد تلك اللحظة التاريخية، ونسعد بما كان فيها، فينبغي علينا أيضاً أن نستحضر سببها، ونجعله لنا رائداً في حياتنا الجديدة، فنأسو به ما نستطيع، ونُعالج به ما نقدر عليه، ونحتفظ بما حصّلناه.
الأهداف لا تتحقق إلا بالتعاون عليها، والاجتماع لها، والأفراد مهما بلغتْ قوتهم، وتناهت حكمتهم، يصعب عليهم وحدهم، ما لم يكن لهم أنصار، أن يحققوا ما سعوا إليه، وقصدوا بناءه، فالتكاتف بين المواطنين على كل شيء شرط نجاحه ونيله، وليس ببعيد أن يقال: إن كلّ هدف يُنتظر حدوثه، ويُستهدف الوصول له، وتُبنى الخطط عليه؛ لا يُنال إلا بالاجتماع له والوحدة في سبيله.
وقد قال الناس، وكثيراً ما سمعنا هذا منهم: وراء كل رجل عظيم امرأة عظيمة، وأصح منه، وأكثر وضوحاً، وأوفر أدلة وشواهد أن يقال: وراء كل أمة عظيمة رجل عظيم! ووراء كل عظيم أمة مستجيبة، وتلك هي قصة هذا الوطن الذي نعيش أجواء يومه الوطني وقصة كل وطن على هذه البسيطة.
التعليقات