لم تكن بلادنا هي المتضرر الوحيد في هذه الأزمة، وأقصد أزمة التأجيل في الإفراج عن التقرير، بل كان أهل الضحايا كلهم من المتضررين؛ لأن دولتهم كانت تتخذه في ابتزاز الآخرين والإساءة إليهم، ولم يكن رائدها أن يعرف أولئك قَتلة ذويهم والمشاركين معهم، خاصة إيران التي سُتر عليها في الثماني والعشرين صفحة وفُضحت بعد أمد بعيد من الحدث! ولعل كل ما جرى يُنبئ أنّ أميركا أُنسيت نصائح آبائها الأولين..

كتمان الخبر الصحيح لا يختلف في ضرره عن بثّ الخبر الكاذب، بل غالباً ما صاحبَ الثاني الأولَ، فكان بعضا مما انبنى عليه ونتج عنه، فحين يُسرّ الصدق، وتُخفى الحقيقة، ينتشر الكذب، ويسري في الناس الزُّور والبهتان، فينفتح أمام مَنْ يُروّج الشائعات، ويعشق الأكاذيب لغرضٍ في نفسه، البابُ على مصراعيه، فيشرع في تشويه الآخرين وتأميم صورةٍ لم تكن لهم ولا كانوا لها، وتلك مسألة اجتماعية في ظني بيّنة، ولها من شواهد التاريخ الغريبة ما يُنيرها ويلفت الأنظار إليها ويُرينا خطرها.

الإسكندر الأكبر الذي جاب بفتوحه العالم ممن اختلف الناس حول أصله، وخلافهم فيه بين رأيين: أهل فارس يرونه ابن ملكهم دارا بن بَهْمن، الذي غزا الإغريق والروم، وصالحهم على دفع إتاوة، وخطب ابنة ملكهم! فزوّجها به ورضيه لها، وهكذا حملت بالإسكندر من دارا، والرأي الثاني وهو المشهور بين الناس أنه ابن فليبس أول ملوك اليونانيين، بهذه الصورة حكى أبو حنيفة الدينوري (ت: 282هـ) الخلاف في كتابه (الأخبار الطوال) ولي عليه حاشية في ضوء الفكرة الأساسية.

لسنا ندري متى اشتهر الرأي الأول في أهل فارس؟ ومَنِ الذي تولّى إذاعته فيهم؟ وكيف عاش هذا الخبر ست مئة سنة حتى رواه لنا الدينوري في كتابه وجعله أحد قولين في أصل الإسكندر؟

ما من شك عندي أن الرواية الفارسية محض كذب، وأنّها وليدة الغطرسة والعنجهيّة، والذي دعا أهلها لها هو الترويج لفكرة أنّ الفرس لا يغلبهم أحد، ولا يستطيع إذلالهم فرد، فقادهم هذا إلى ادّعاء أنّ مَنْ غَلَبنا، وهو هنا الإسكندر، ما كان له ذلك، لولا أنه ابن ملك من ملوكنا! فعلوا ذلك كله حتى يُشيعوا في أهل ملّتهم أنّهم ما زالوا على ما عُهد عنهم من قوة وبأس! ومثل هذه الحكايات، ولو كانت أحاديث خرافة، تبقى في الناس ولا تزول؛ لأنها تدفع عنهم النقص، وتُوهمهم، ولو بالباطل، أنّهم ما برحوا قادة العالم ورَبابنة سُفنه!

إنّ دعوى الفرس انتسابَ الإسكندر إليهم كدعوة مَنْ يتّهم بلادنا بالمسؤولية عن أحداث الحادي عشر من سبتمر. راجت الدعوى الأولى في الماضي لأمرين: الأول: أنّها كانت ترفع الحرج عن الأمة الفارسية الجريح بعزو الإسكندر، والثاني: أنّها لم تجد مَنْ يصدّها ويتعقّب ناشرها حتى وصلت الدينوري في القرن الثالث الهجري. وفشتْ في الناس الثانية لأمرين أيضاً: الأول: أن السعودية مستهدفة بالتهمة ومقصودة بها، والثاني: أنّ الدولة التي ملكت حق التحقيق في القضية لم يكن يهمّ مسؤوليها والقائمين عليها ما يجرّه تأخرهم في الإعلان وبُطؤهم في الكشف عن نتائج التحقيق، وهم لهذا مشاركون في تشويهنا ونشر سوء القالة في العالم عنّا! وما هو ببعيد عندي أنْ يُحمّلوا جريرة ما جرى لنا ويُحاسبوا عليه، هذا إن كان في العالم مَنْ يرعى حقوق الذين تُشوّه صورتهم ويُساء إلى سمعتهم.

توماس كين رئيس لجنة التحقيقات، الذي نشر موقع العربية تصريحه، جاء حديثه عن ملفات التحقيق كلها متأخراً جداً، وبعد خمس سنوات من نشر الصفحات الثماني والعشرين من تقرير اللجنة، التي أَطلع العالمَ على ما حوته المتحدثُ باسم البيت الأبيض جوش إيرنست في تلك السنة، حسب موقع العربية أيضاً، وكانت جملته فيه غريبة: "إن مسؤولي المخابرات الأميركية انتهوا من فحص ثمانٍ وعشرين ورقة سرية من التقرير الرسمي.. وأنها لا تظهر أيّ تواطؤ سعودي" ووجه الغرابة أن هذه الصفحات الثماني والعشرين لا تُمثّل التقرير كله، وأنّ تبرئة بلادنا في تلك السنة كانت تبرئة غير كاملة، وهذا هو الذي جعل أهل الضحايا يبقون مصرّين على الكشف عن التقرير كله، وجعل الأذى يبقى على ألسنة الناس تجاه دولتنا وشعبنا، فكأنّ تلك الصفحات لم يكن لها من أثر سوى إثارة مزيد من البلبلة تجاهنا، فقد تُثبت بقية أوراق التقرير التهمة، وذاك هو الذي كان يُراد من مسرحية الإخراج الأولى لتلك الصفحات، وانتظر الْمُدّعى عليه، وهو دولة ومجتمع، خمس سنوات حتى يتحدث بالأمر رئيس اللجنة نفسه.

إن تأجيل نشر نتائج تقارير حادثة، يُتّهم فيها طائفة من الناس، بعد أن استوت على سوقها، فيه ابتزاز للمتهم ومشاركة في تزوير الأخبار عنه ودعوة للتقوّل بين العالمين عليه! وهذا ما أراه في هذه القصة التي لعلّ تصريح توماس يختم فصولها ويُنهي أحداثها.

لم تكن بلادنا هي المتضرر الوحيد في هذه الأزمة، وأقصد أزمة التأجيل في الإفراج عن التقرير، بل كان أهل الضحايا كلهم من المتضررين؛ لأن دولتهم كانت تتخذه في ابتزاز الآخرين والإساءة إليهم، ولم يكن رائدها أن يعرف أولئك قَتلة ذويهم والمشاركين معهم، خاصة إيران التي سُتر عليها في الثماني والعشرين صفحة وفُضحت بعد أمد بعيد من الحدث! ولعل كل ما جرى يُنبئ أنّ أميركا أُنسيت نصائح آبائها الأولين.