«اسمع الآن يا فرانكي، سيكون هذا الشتاء طويلاً وقارساً، وسأجالس الأطفال في مساءاته، وأنا أحتاج إلى شيء أقرؤه.. والآن لا تجلس في مكانك، اذهب واعثر لي على بعض الكتب».
( هيلين هانف)
كانت الرسالتان في البداية بمثابة بداية فتح الطريق لرسائل أخر ستكون فيها طلبات الكتب هي الموضوع الرئيس، ولكن دائما ما تكون الرسائل عندما يجري تبادلها بين الجنسين غالبا ما أن تجنح إلى مواضيع لم تكن في الحسبان، إذ أن الأساليب لا بد أن تكون بينها تضم ما يشبه المغناطيس الذي يجذب الطرفين إلى نقطة تلاق في التطرق بمواضيع تكون كما الرتوش التي تزيد حلاوة ولطافة الرسائل، مثل تمرير نكتة تتبعها في رسالة أخرى هدية من أحدهم، أو تسهيل مهمة خارجة عن النهج الذي كان سائدا في الرسائل الأول، أي بمعني (رفع الكلفة) بين الطرفين ويسير الحديث متشعبا معبرا عن حالات شخصية، أو حاجات مادية، تكون متوفرة في بلد عن آخر، فتتداخل هذه الحاجات تلقائيا كرغبة مشتركة ألمح لها أحدهما، فكان تفاعل الآخر معها، وعلى حد رؤية الكاتب إبراهيم محمود «لعل هذا المفهوم وما يصلنا بالفاعل المؤثر في تحريك قوى نصية معينة مؤثرة أكثر من سواها، مما يدفع الاهتمام إلى جانب لجانب آخر كما هو المحرك البحثي وفضاء المنتظر»، وما هو منتظر يتكون مع مرور الوقت، وفحوى الرسائل التي بدأت بطلب كتب لم تكن متوفرة عند هيلين في أمريكا، وحالما قرأت الإعلان المنشور عن (شركة ماركس وشركاه) الذي عرفت منه بأنهم متخصصون في الكتب التي نفدت نسخها، من القديمة وبعض المعاصرة في ذلك الوقت 1949، أرسلت طلبها في قائمة بالعناوين المطلوبة، من بينها (مراسلات عاطفية بين برنارد شو وإيلين تيري -، القارئ العادي لفرجينا وولف، ومقالات مختارة لويليام هازلت، وغيرها، فجاءها الرد بإمكانية تحقيق طلباتها من الكتب، والإشارة فيه من قبل كاتب الرسالة الذي رمز لاسمه بعد كلمة المخلص لك بـ (ف. ب. د) بأنه بعث الكتب التي تيسرت له بالبريد السريع مع الفاتورة، وأنه سيعمل على توفير بقية القائمة، وعرض عليها أسماء بعض الكتب المتوفرة لديه إن كانت تريدها، وسرعان ما كتبت ممتنة وشاكرة واصفة ما وصل إليها «وصلت الكتب بسلام - ستيفنسون - رائع لدرجة أنه يحرج رفوف مكتبتي البرتقالية، أخشى لمس مجلد رقيق وذي أوراق ذات لون عاجي كهذا؛ لأني اعتدت على الأوراق البيضاء الخالية من الحياة، أغلفة الكتب الأمريكية الكرتونية صلبة، كنت أجهل أن للمس الكتب متعة كهذه» مضمون الرسالة جواب وشكلها امتنان شفاف له رائحة تشي بالاستمرار والرغبة في التواصل عن طريق التغزل في الكتب الإنجليزية شكلا، وهجاء الكتب الأمريكية الصلبة مما يجلب المتعة، وكانت الرسائل مستمرة بين الطرفين، تخرج عن نطاق الكتب القديمة والجديدة وهي تحت ظلالها، فقد كان يسكن رجل بريطاني في العمارة التي تقطنها (هيلين) وتحدثت معه عن أحوال الإنجليز وبلادهم في ذلك الوقت وكانت شرحت له حالها مع الكتب وتقتيرها على نفسها في سبيل الحصول عليها، فوعدها بأنه سيسدد قيمة بعض الكتب لـ (ف.ب.د) فكتبت في آخر رسالتها لصاحب الرمز «أخبرني - برايان - بأن كل عائلة يخصص لها في بريطانيا أونصتان من اللحم أسبوعيا، وبيضة واحدة لكل شخص شهريا فتملكني الرعب، لدى - بريان - قائمة من شركة بريطانية تقوم بإرسال الطعام جوا من الدنمارك إلى والدته، ولذلك سأرسل لك هدية بسيطة بمناسبة عيد الميلاد إلى ماركس وشركاه، أتمنى أن تكفي الجميع، وهو يقول أيضا إن مكتبات شارع تشيرنغ كروس صغيرة جدا، أرسلت الهدية لك يا (ف.ب.د) مهما كان اسمك» وذيلت الرسالة بـ (ماما نويل: هيلين هانف) ما إن أرسلت هديتها حتى أدركت أنها قد حصل خطأ ما ربما في العنوان فألحقها مباشرة برسالة عاجلة تضمنت «ف. ب.د ! كارثة! لقد أرسلت الطرد الهدية فيه 6 باوندات من لحم الخنزير، وقد افترضت أن بإمكانك أخذها إلى الجزار ليقطعها حتى يتمكن الجميع من أخذ قطعة لمنازلهم منها لكني لاحظت توا في الفاتورة المرسلة أنه كُتِبَ: «ب. ماركس.م. كوهين - المالكان -.. يمكنني إرسال لسان بدلا منه، نصيحة ورجاء
/ هـ.هـ» .
بعد أن صرح لها باسمه (فرانك دويل) اتسعت دائرة الحديث حتى وصلت إلى الدعوة لزيارتهم في إنجلترا، تَعِدُ وتؤجل فقد كان العاملون والعاملات الذين وصلتهم هدية عيد الميلاد والهدايا التي توالت كل عام ففي العام 1951 بعد أن توطت المعرفشة عبر الرسائل والهدايا وصلتها بطاقة معايدة مرفقة بملاءة مائدة إيرلندية مطرزة يدويا ومشغولة بإتقان من منسوبي مارس وشركاه: «تهانينا بعيد الميلاد / وكل الأمنيات الطيبة للسنة الجديدة / من: جيو مارتن - ميغان ويلز - و. همبرفريز - سيسلي فار - فرانك دويل - جي. بيمبرتون» وصارت بعض الرسائل بينها وبين فرانك تبدأ بـ (أيها الكسول) وتذيلها بـ(الآنسة هانف لك - أنا هيلين فقط لأصدقائي) أو (فرانكي..) وتوقعها بـ(هـ. هـ/ قبلاتي) ومنه (العزيزة هيلين) ويمهر بـ(محبتي / فرانك) تواشجت مع البعض بالرسائل، وكانت زوجة فرانك قد عقدت صداقة معها وأصبحت تراسلها، وبعد وفاته كانت حزينة مع أسرته؛ وعبرت لهم بما كانت تكن للراحل من تقدير ومحبة وعن عشقها له كما الكتب التي يوفرها لها «وتبادلت الرسائل مع بناته» وكتبت لها ابنته (شيلا) موافقة العائلة على نشر الرسال المتبادلة مع والدهم «يسرنا أن نسمع عن كتابك، ويسرنا أن نمنح موافقتنا لنشر الرسائل» عشرون عاما امتدت الرسائل المتبادلة بين (هيلين / فرانك) تخللتها بعض رسائل مع منسوبي وأسرة فرانك، وقد عَرَّفَتْ المترجمة الكويتية (دلال نصرالله) فرانك دويل بأنه ورّاق مثقف وله علم بما يمكن أن يثير اهتمام هيلين بشهادة زوجته نورا، ووصفت هيلين بأنها محبة للقراءة وامتلاك الكتب؛ لتؤكد عشقها للكتب شكلا ومحتوى، ولو أن مضمون بعض الرسائل يميل إلى حبها لامتلاك الكتب أكثر من قراءتها، ولو أنها حددت أسماء كتب ومؤلفين عالمين، ولكن تواصلها مع الجميع اتسم بالرقة والعطف مما يجسد نظرتها الإنسانية الشفافة، حيث تعاملت برقي يحترم المتعاملين معها وغيرهم.
التعليقات