«إن أبرز ما في القصيدة حكايتها الممتعة، الآسرة في مخيلتها، ولكن الدلالات الرمزية العميقة تحتاج منا إلى جهد مضاعف، وما من تجاوز في قولي بأنها قصيدة مفكرة حقا، كتبها إنسان على هذه الأرض، إنها تغنّي ولكنها تفكر أيضاً»..
( فوزي كريم)
فكرة القصيدة تأتي دون تخطيط إذ هي تباغت الشاعر برفرفة أجنحتها حتى تحجب نظره عن رؤية أيْ شيء آخر سواها، وذلك لاستيلائها على حواسه التي تقودها إلى ما تبغي؛ لكي يقول ما تشاء حسب الطريقة التي يمتلك ناصيتها، وفي خضوعه وإدراك القصيدة أنها تمكنت من السيطرة التامة على مربع الأحاسيس، والخواطر والفكر والبوح، هنا تخف حركة الأجنحة شيئا فشيئا حتى التلاشي الذي جاء في ذوبان للنواتين «الفكرة والصورة» الذي أخذ يتنامى في الخطوات الأولى للنص الشعري المجسد للحالة التي تبحث عنها الفكرة لتظهر متكاملة الأبعاد، فيأخذ الشاعر في عملية الخلق الفني الذي يرى أنه سيكون الوسيلة الأمثل للوصول إلى المتلقي؛ إذ يجيء ذلك باعتماده على الصدق الذي حرث وزع فيه حصيلته من التجربة الحياتية الإنسانية، وللذات الشاعرة في ذلك طرقها التي تمكنها من ارتقاء درجات العطاء بما يمكن له أن يستوعبه، فيرسم متحررا من الإملاءات التي قد تمر في طريقه الذي يسطر فيه كلماته المعبرة عن المكنون، وفي التمازج بين الصدق والإيضاح، يكون المعطي في راحة نفسية تجعل الكلمات تنثال عليه ليجري معها بقلمه مادام الأثر واضحاً.
الشاعرة اللبنانية (زنوبيا ظاهر) صاحبة المجموعة الشعرية (آخر العنقود يسقط أولا) تختلف عن شاعرات أخر عرفن في الساحة الثقافية العربية في الأدب المعاصر مثل نازك الملائكة، لميعة عمارة، سلمى الجيوسي، روحية القلّيني، فاطمة ناعوت، ملك عبدالعزيز، وغيرهن مع تفاوت الأعمار والتجارب؛ إذ لكل ممن ذكرت تجربتها الشعرية والحياتية التي تناولها نقاد أو كتاب في دراسات مختلفة فصارت لهن قاعدة معروفة المكانة، فهي ترى «شعري هو صدى لصراعي مع ذاتي، مع الوطن في مفهومه الرحب، مع الحب في مفهومه الرحب أيضا، خرجت بالفعل، أو ولدت خارجة عن المفاهيم الموروثة عن هذه العناوين الثلاثة» الصراع معناه الحياة، الشاعرة / الشاعر في صراعه يصرخ ويهمس أحيانا، ولكنه لا يكتم بل يتنفس عبر صوره الشعرية، ففي أضمومة من القصائد تجلت روح الشاعرة التي تومئ إلى اختلافها، إذ لها خاصيتها المتفردة وهي لما تزل في بداية التطريق الذي عكسته في عنوانها المعبر عن الفرادة المبكرة إذ العرف أن آخر العنقود يكون أخيرا، وقد تعارف الناس على أن آخر ما يولد عند توقف المرأة عن الحمل هو آخر العنقود، زنوبيا ترى أن آخر العنقود يسقط أولا، وهذا مجاز يخص الشاعرة، التي توحي بالتمرد على المألوف لكي تقول المخالف عن السائد وقد تمكنت من ذلك، إذ تنظر إلى شكل القصيدة ما يوازي نظرة الشاعرة (هيام التوم) في حوار عن شكل القصيدة التي ترتاح له «أؤمن بأن القصيدة هي روح الدهشة وقد تلبس أجسادا متعددة أو أثوابا مختلفة، ربما أعشق الحرية واللعب في فضاء الكلمة الرحب من دون التقيد بوزن أو قافية على حساب المعنى، لا شك أن ذلك الأصعب؛ لأن علي إيجاد لمعات بكر للتعويض عن انتفاء الوزن، وربما غيري يجيد إلباس دهشاته ثوبا مقفى رائع الجمال من دون أن ينقص من قوتها، ولكني لست مع القيد الذي ينقص من قيمة الجوهر» في قصيدة الشاعرة زنوبيا ذات العنوان (أبناء الأبد) التي تهديها (إلى ثُلَّة القلق.. العابرين إلى الحقيقة مع نزواتهم):
أولئك الذين يولدون في الأبد
يموتون لأتفه الأسباب
كتأخرهم عن الخروج
عند الساعة السابعة صباحا
لتناول الفطور في أحد مقاهي المدينة
أولئك الذين يموتون لأتفه الأسباب
يقذفون نومهم بالأرق
.... ....
ثمة أحد في نقطة ما من هذا الكون
رباعي الأبعاد
يسقي زهرة على شرفته ويقول لها:
أسقيك وأعلم كلانا / أو أحدنا /
فكرة شردت عن باب موتها
فتلقفها الأبد.
هي صورة الأفكار التي تكون فائدتها تعم ولا تخص، الأفكار الإنسانية في اتساع أفقها لكي يلم الجميع في مفهوم التعامل بالتساوي البشري على سطح الأرض، وما يحدث للإنسان من متع وآلام، وكأنها تصور الواقع الذي امتدت خيوط خيمته بـ(جائحة كورونا) وما لحقها من ذيول أثرت على العالم من أقصاه إلى أقصاه، إذ الكل يعاني ويعمل من أجل القضاء على الوباء، وما يماثل من أفكار قوامها الإنسان يذهب وهي تبقى أبدية.
وفي قصيدة (نخب الكسل)
كنا نرشق الصبح بالكسل يومها
....
....
أو في الغابة على مرأى الفراغ
وتلوت عليك قصائد
لم أكن أعلم أنني كتبتها
وضحكنا من فرط حزنها
ورحنا نكتشف رؤيا أفكارنا بدهشة
....
تعاهدنا في ذلك الصباح
أن نرشق بعضنا بالكسل
كلما هيأت لنا الحياة صباحا
وسنرخي حبال أفكارنا على بعضها
لتغزل قصائد أحاول الآن أن أتذكر
بماذا رشقنا الكسل حتى استطاع أن يطردنا؟
هذه المقتطفات من نصين للشاعرة تحدد أن الذهاب مباشرة إلى المعنى بالتجريد دون تحذلق في اللغة وتراكيبها الصارخة حيث الهمس، والرسم بعدة ألوان، لكنها متناغمة ومتداخلة في بعضها لتعطي معنى واضحا (لا لف فيه ولا دوران) فالمباشرة موجودة حتى ولو كانت العناوين مجازية فهي عملية تشير إلى أن الشاعرة قد أفرجت عن بعض المسكوت عنه، رغم خشية الرقيب المتنمر، فوقفت لتقول الشعر بوح الشعر صورة الشعر استشفاف، وفي شعرها وسياقاته النثرية، كانت الجملة تأخذ مداها وهي تحتل مكانها في أي زاوية من الإطار الذي يضم الصورة بكاملها، فالشاعرة في قصيدة (منتشية):
لا وقت لي
لمزهرية الشر آن انكسارها
الوقت لما وقع
....
لملم رمادك / لأرتد عن كمالي إليك.
ولكي نعطي مبررا تقريبيا بين الأجناس الشعرية كان اللجوء لمستشار نقدي يدلي بتقويمه له آراؤه النقدية في الشعر بأشكاله، فكان الناقد د. عاطف عبدالعزيز «المستقبل يتشكل من عدد لا متناه من الاحتمالات، كل احتمال منها يمثل بحد ذاته مئة بالمئة من تلك الاحتمالات.. إن كل حدث فني مقبل بات مؤلفا من كل احتمال ونقيضه.. مهمتنا الآن ليس الكشف عن ملامح قصيدة المستقبل، لكنها قد تنحصر في حراسة الشعر ذاته من أجل أن يظل للبشرية مستقبل وأن يظل لهذا المستقبل قصيدة».
شاعرتنا في طرحها مباشرة، في كلماتها سلاسة ولمعانيها أبعاد قد تستظل بحافة الفلسفة، ولا أقول الفلسفة، لكون الفلسفة علمية «والشعر يهرب من الصفة العلمية» ويلجأ للفن والإبداع، وهي بذلك تلتفت بي إلى شاعرات، جمانة حداد، زينب عساف، وداد بن موسى، ففي أشعارهن يتفاعلن مع الواقع الحياتي على أطراف التشابك مع الروح والذات.
التعليقات