«العمل الأدبي/ الفني لا يمكن أن ينشأ من لا شيء، فهو مثل كل مناحي النشاط الأخرى، منشؤه الحياة، ولكنه -مثل كل بناء آخر- إن أحكم بنيانه عاش في خدمة الحياة عشرات بل مئات السنين».
(د. رشاد رشدي)
المكتسبات المعرفية تتأتى لصاحبها الباحث عنها عن طريق الإصرار على الهدف والمضي في التوجه إليه بما ينبغي من وسائل من شأنها أن توصل إليه، فالأديب والفنان كلاهما موهوب، أحس كل منهما بأن لديه الرغبة في أن يعمل من أجل ما يعتمل في ذاته من أشياء تمور فيها تدفعه ليخرجها لأنه يرى في إظهارها ما يريحه ويمتعه ويرى أن الآخر المقابل سيشاركه المتعة، بالرغم من النرجسية (المتلفعة) برداء البراءة التي ينكرها الأديب، مصرا على أنه يقدم الآخر على ذاته بينما هو يقدم نفسه على الآخر؛ لأنه هو من اجتهد وتعب ليعطي، وما المتلقي إلا المرآة العاكسة لما يأمله، وفي هذا يكون ما يشبه التكامل بين المعطي والآخذ؛ لأن الآخذين المتفحصين الذين يسبرون أغوار العطاءات المخرجة من جميع المنتجين هم فئة تسوق معلنة عما تعمقت فيه من نتاجات مختلفة، فهي ناقدة ومقومة في الظاهر، وهذا ينطبق على القليل النادر، غير أن الأكثرية تسرع راكضة إلى المنتج الجديد لكي تكون متماهية معه في صورة متوازية ظنا منها أنها تعطي بينما هي تأخذ السمعة مما ذهبت إليه، ولكنها في الآن ذاته ساهمت في الدعاية المشتركة التي جعلت العمل يأخذ دوره في الساحة ويصبح سلعة مرغوبة، ولولا هذه الفئة المقومة التي تلاحق الأعمال لما لقيت أعمال كثيرة الرواج والتداول حتى ولو كانت على مستويات عالية من الجودة.
فكم من الأعمال لو لم يحالفها الحظ في الإشارة إليها بالعمل التقويمي الذي صاحبها، أو لفت إليها الأنظار نالت شهرة لأصبحت في عداد المنسي، مع أن هناك من الأعمال الجيدة التي تركت للزمن سيأتي اليوم الذي يلتفت إليها فيه ويجلبها من عالم النسيان أو التهميش إلى ساحة الواقع، فالأمر المهم في أن التقويم أو النقد على الأصح المواكب في مراقبة الأعمال الجديدة الجيدة بتصحيح المسار لا بد أن تكون عملياته محل القبول لدى المبدع الذي يقدم نتاجه للناس ولكن العيب أن هناك ممن يقدم عملاً يرى فيه التكامل، فإذ لاحظ صاحبه في الرأي ما لا يناسبه أو يشيد به ويجعله في الواجهة، أو المقدمة في (فترينة) العرض المسطحة، فإنه يرى في ذلك إجحافا في حقه حتى ولو كان ذلك الرأي من قادر له مكانته في ممارسة النقد والكتابة فيه بشهادات من مماثلين له في العطاء، ونقاد وكتاب لهم عطاءاتهم المعروفة المتسمة بالجودة، فهو يرى من حقه أن يسفه من حاول تقويمه نقديا، وأن يصفه بألفاظ غير لائقة محملة بالبذاءة، بعيدة عن الذوق والأدب، لكونه يرى ما يخالفه هو خطأ في حقه؛ لأن ما قدم فوق النقد، ويجيء ذلك لأنه تعود على التدليل والمجاملة من أناس همهم الظهور في محاولات يدّعون أنها تندرج في خانة النقد؛ لذا فهو يرى في نفسه ما لا يراه صاحب التجربة والذي كتب الكثير وأفاد سواه.
الذي يقدم عمله حتى ولو كان في ثقة تامة بأنه قدم شيئا كاملا لا بد أن يضع في حسبانه تباين الآراء وتعدد المشارب والأذواق «ولكل رأيه» والمبدع ليس في غنى عن معرفة رأي الآخر فيه سواء قبله أو لو لم يقبله ومن هنا تكون عملية الخصوصية التي كان التركيز عليها في (اللمحات الماضية) فالبداية التي تكون لصاحب العطاء هي البوصلة التي يستهدي بها في منعرجات ومنعطفات الكتابة، ومن خلالها سيعرف الطريق السليمة التي توصل إلى العطاءات الجيدة، وهذه لا تجيء عفوية وإنما بالتكرار الذي يعني التجارب، فعندما قال إرنستو سباتو: «هناك أكثرية من الأدباء الذين يكتبون لأسباب وضعية: يبحثون عن الشهرة والمادة، ويكتبون للتسلية، أو لأنهم لا يقاومون غرور رؤية أسمائهم بأحرف مطبوعة، أو لمجرد الهروب واللعب» كان يعي أنه بحكم تجربته أنه يصف أشياء لمسها لدى كتاب متباينين من خلال قراءاته وهو لا يعني كل الكتاب، ولكن هناك من الكاتبين من ينطبق عليهم الوصف، فالكاتب من بداياته لا شك أنه رسم ما يمكن أن يقدم، وما سيزيد سيكون في تراكم التجارب والمسيرة وستتحد مكانته حسب اجتهاداته.
الكاتب الروائي العربي الشهير إحسان عبدالقدوس لا شك أنه أستاذ أجيال وأعماله نالت من الشهرة الكثير، وكتاباته السياسية والاجتماعية بوأته مكانة مميزة إلى جانب توفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، كان في بدايته من الصغر يكتب محاولات، وعندما وصل إلى المرحلة الجامعية كان يريد أن يكون طبيبا أو مهندسا، ولكن والدته فاطمة اليوسف الممثلة / الصحفية مؤسسة مجلة (روز اليوسف) لمست فيه أنه سيحل مكانها في رئاسة تحرير المجلة؛ لأنها كانت تقرأ ما كان يكتبه كما تشير الكاتبة آمال عثمان في كتابها (إحسان عبدالقدوس/ عشق بلا ضفاف)» أمسك القلم منذ بدأ يعي وظل مشدودا إلى الكلمة.. سطر أول قصة وعمره ست سنوات، وحين بلغ العاشرة كتب مسرحية (المعلم علم التلميذ.. طلع لص ظريف) ونشر أول قطعة من الشعر المنثور في الصفحة الأدبية بمجلة روز اليوسف وعمره 15 سنة باسم مستعار»البدايات هي الركيزة وقاعدة الانطلاق إلى الآفاق البعيدة متى ما أحسن توجيها وكان لديها الاستعداد والرغبة؛ لأنها ستقود حتما إلى نهايات مثمرة بالعطاءات مهما امتدت بها المسيرة، فلا يأس مع الحياة، إذا وجدت الرغبة وحدد الهدف».
التعليقات